۩ البحث ۩



البحث في

۩ إحصائية الزوار ۩

الاحصائيات
لهذا اليوم : 1092
بالامس : 2314
لهذا الأسبوع : 12180
لهذا الشهر : 23900
لهذه السنة : 119799
منذ البدء : 3734057
تاريخ بدء الإحصائيات : 3-12-2012

۩ التواجد الآن ۩

يتصفح الموقع حالياً  32
تفاصيل المتواجدون

:: حكمُ صومِ الحاجمِ والمحجومِ ::

المسألة

:: حكمُ صومِ الحاجمِ والمحجومِ ::

 د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

ومنه المعونةُ والسَّدادُ

حكمُ صومِ الحاجمِ والمحجومِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.

أمَّا بعدُ؛ فهذه المسألةُ قد اختلَف فيها العلماءُ اختلافًا عظيمًا؛ وذلك لقُوَّةِ الأدلَّةِ في ذلك معَ تعارضِها الظَّاهريِّ.

القولُ الأوَّلُ:

إنَّ الحجامةَ تُفطِّرُ. وإلى هذا القولِ ذهَب طائفةٌ من أهلِ العلمِ؛ كأحمدَ بنِ حنبلٍ, وإسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ, وأبي ثورٍ، وهو قولُ عطاءٍ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهْدِيٍّ, والأوزاعيِّ, والحسنِ, وابنِ سِيرينَ, وقال به من الشَّافعيَّةِ: ابنُ خُزَيمةَ, وابنُ المنذرِ, وأبو الوليدِ النَّيسابوريُّ, وابنُ حِبَّانَ، وهذا القولُ من مفرداتِ الحنابلةِ.

وقد ذهب إليه جمعٌ من الصَّحابةِ رضي اللهُ عنهم، منهم: عليُّ بنُ أبي طالبٍ, وأبو موسى الأشعريُّ. وكان جماعةٌ من الصَّحابةِ يَحتَجِمونَ ليلًا في الصَّومِ، منهم: ابنُ عمرَ, وابنُ عبَّاسٍ, وأبو موسى, وأنسُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنهم.

وهذا القولُ هو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةِ، وتلميذِه العلَّامةِ ابنِ القيِّمِ(1) رحمهما اللهُ تعالى، ومِن المعاصرينَ: ابنُ بازٍ رحمه اللهُ تعالى.

أدلَّةُ هذا القولِ:

1- عن ثَوْبانَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ»(2).

2- روى شدَّادُ بنُ أَوْسٍ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أتى على رجلٍ بالبقيعِ وهو يَحتَجِمُ, وهو آخِذٌ بيدي، لِثَمانِ عَشْرةَ خلَتْ من رمضانَ, فقال: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ»(3).

وفي البابِ عن رافعِ بنِ خَدِيجٍ، وأبي هريرةَ، وعائشةَ، وبلالٍ، وأسامةَ بنِ زيدٍ، ومَعقِلِ بنِ سِنانٍ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ, وأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وأبي موسى الأشعريِّ، وابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهم(4).

القولُ الثَّاني:

ذهب جمهورُ العلماءِ إلى عدمِ الفِطْرِ بالحجامةِ مُطلَقًا، وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ, والشَّافعيِّ, وهو قولُ ابنِ حزمٍ، وظاهرُ صنيعِ البخاريِّ في «صحيحِه»، واختاره الشَّوكانيُّ، والصَّنعانيُّ.

وقد ذهب إليه جمعٌ من الصَّحابةِ -رضي اللهُ عنهم-، منهم: أبو سعيدٍ الخدريُّ, وابنُ مسعودٍ, وأُمُّ سَلَمةَ, وابنُ عبَّاسٍ, وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ, وأبو هريرةَ, والحسينُ بنُ عليٍّ، وزيدُ بنُ أَرقَمَ -رضي اللهُ عنهم-، والرِّوايةُ الثَّانيةُ عن أبي هريرةَ وعائشةَ رضي اللهُ عنهما.

وقال به من التَّابعينَ: عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ, وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والشَّعْبيُّ، وطاووسٌ، وعِكْرِمةُ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ, وسفيانُ الثَّوريُّ, وإليه ذهب الخطَّابيُّ، والرِّوايةُ الثَّانيةُ عن عطاءٍ وابنِ سيرينَ، ومن المعاصرينَ: الخُضَير، والعُلْوان.

أدلَّةُ القولِ الثَّاني:

1- استَدَلُّوا بما ثبَت في «صحيحِ البخاريِّ» وغيرِه عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- احتَجَم وهو مُحْرِمٌ, واحتَجَم وهو صائمٌ(5).

2- عن ثابتٍ البُنانِيِّ قال: سُئِل أنسُ بنُ مالكٍ -رضي اللهُ عنه-: أَكُنْتُمْ تَكرَهُونَ الحِجامةَ للصَّائمِ؟ قال: لا، إلَّا مِن أجلِ الضَّعفِ(6).

فسببُ كراهةِ الحجامةِ للصَّائمِ: مِن أجلِ الضَّعفِ.

3- عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللهُ عنه- قال: أوَّلُ ما كُرِهتِ الحجامةُ للصَّائمِ: أنَّ جعفرَ بنَ أبي طالبٍ احتَجَم وهو صائمٌ, فمَرَّ به النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: «أَفطَرَ هذانِ»، ثُمَّ رخَّص النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بعدُ في الحجامةِ للصَّائمِ، وكان أنسٌ يحتجمُ وهو صائمٌ. قال الدَّارقطنيُّ: كلُّهم ثقاتٌ، ولا أعلمُ له عِلَّةً(7).

4- عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللهُ عنه- قال: رخَّص النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في القُبْلةِ للصَّائمِ, ورخَّص في الحجامةِ(8). والرُّخصةُ تقابلُ العزيمةَ.

5- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى قال: حدَّثَني رجلٌ من أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- نهى عن الحِجامةِ والمُواصَلةِ، ولم يُحرِّمْهما؛ إبقاءً على أصحابِه، فقيل له: يا رسولَ اللهِ، إنَّكَ تُوَاصِلُ إلى السَّحَرِ؟ فقال: «إنِّي أُوَاصِلُ إلى السَّحَرِ، ورَبِّي يُطْعِمُني ويَسْقِيني»(9).

وأجاب الجمهورُ على الاستدلالِ بحديثَيْ ثَوْبانَ وشدَّادٍ, وفيهما: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» بأجوبةٍ، منها:

1- القدحُ في الأحاديثِ الدَّالَّةِ على أنَّ الحجامةَ تُفطِّرُ، وتعليلُها بالاضطرابِ.

2- القولُ بالتَّرجيحِ, وأنَّ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ أرجحُ من حديثَيْ ثوبانَ وشدَّادٍ وغيرِهما؛ لأنَّه أصحُّ إسنادًا؛ لأنَّه في الصَّحيحِ كما ذكر ذلك الشَّافعيُّ كما سيأتي.

3- القولُ بالنَّسخِ, وأنَّ أحاديثَ ثوبانَ وشدَّادٍ وغيرِهما منسوخةٌ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- احتجَم وهو صائمٌ؛ لأنَّه كانَ في حَجَّةِ الوداعِ سنةَ عشْرٍ, وحديثُ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» في عامِ الفتحِ، قاله ابنُ عبدِ البَرِّ، وقبلَه الشَّافعيُّ.

(وقيل: منسوخةٌ بما أخرجه الدَّارقطنيُّ عن أنسٍ، والنَّسائيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللهُ عنهما- من الرُّخصةِ في الحجامةِ، قال ابنُ حزمٍ: (أرخَص النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحجامةِ للصَّائمِ). وإسنادُه صحيحٌ، فوجب الأخذُ به؛ لأنَّ الرُّخصةَ إنَّما تكونُ بعدَ العزيمةِ, فدَلَّ على نَسْخِ الفِطْرِ بالحجامةِ, سواءٌ كان حاجمًا أو محجومًا)(10).

فحديثُ ابنِ عبَّاسٍ مُتأخِّرٌ؛ لأنَّه جاء في بعضِ طُرُقِه ما يدلُّ على أنَّه في حَجَّةِ الوداعِ، وحديثُ شدَّادِ بنِ أوسٍ في عامِ الفتحِ، فهو مُتأخِّرٌ عنه، وهذا ما قرَّره جمهورُ أهلِ العلمِ، ونَصَّ عليه الإمامُ الشَّافعيُّ، (وقال الشَّافعيُّ بعدَ أن أخرَج حديثَ شدَّادٍ, ولفظُه: (كُنَّا معَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في زمانِ الفتحِ, فرأى رجلًا يحتجمُ لثمانِ عشْرةَ خلَتْ من رمضانَ, فقال وهو آخِذٌ بيدي: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ»)، ثُمَّ ساق حديثَ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: (أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- احتجَم وهو صائمٌ)، قال: (وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ أَمثَلُهما إسنادًا, وإنْ تَوقَّى أحدٌ الحجامةَ كان أَحَبَّ إليَّ احتياطًا, والقياسُ معَ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ, والَّذي أحفظُ عن الصَّحابةِ والتَّابعينَ وعامَّةِ أهلِ العلمِ أنَّه لا يُفطِرُ أحدٌ بالحجامةِ)(11).

4- (تأوَّلوا حديثَ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» بتأويلاتٍ كثيرةٍ، منها:

أ- أنَّ المرادَ به أنَّهما سيُفطِرانِ.

ب- وتأوَّله بعضُهم بأنَّ الفِطرَ فيها لم يكنْ لأجلِ الحجامةِ، بل لأجلِ الغِيبةِ، وذكَر الحاجمَ والمحجومَ للتَّعريفِ المحضِ؛ كزيدٍ وعمرٍو، لا للتَّأويلِ بأنَّه على حقيقتِه.

ج- وتأوَّله بعضُهم بأنَّهما قد أفطَرا حقيقةً؛ لأنَّ مرورَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بهما مساءً في وقتِ الفطرِ, فأخبَر أنَّهما قد أفطَرا ودخلا في وقتِ الفِطْرِ.

د- ومنهم مَن تأوَّله بأنَّ المرادَ من قولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» التَّغليظُ والدُّعاءُ عليهما, لا أنَّه حكمٌ شرعيٌّ.

هـ- ومنهم مَن تأوَّله بأنَّ المرادَ مِن إفطارِ الحاجمِ والمحجومِ إبطالُ ثوابِ صومِهما، فكأنَّهما صارا غيرَ صائمينِ)(12).

وأجاب أصحابُ القولِ الأوَّلِ عن أجوبةِ الجمهورِ بأجوبةٍ:

1- أجابوا عن الاستدلالِ بحديثِ شدَّادٍ وثوبانَ وغيرِهما بأنَّ القدحَ في الأحاديثِ الدَّالَّةِ على أنَّ الحجامةَ تُفطِّرُ الصَّائمَ، وتعليلَها بالاضطرابِ = غيرُ مُسلَّمٍ به؛ فإنَّ أقوالَ الأئمَّةِ العارفينَ بهذا الشَّأنِ قد تَظاهَرتْ على تصحيحِ بعضِها؛ مثلَ أحمدَ بنِ حنبلٍ, وإسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ, وابنِ المدينيِّ, وإبراهيمَ الحربيِّ, وعثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارميِّ, والبخاريِّ, وابنِ المنذرِ. وبعضُ هذه الأحاديثِ إمَّا حسنٌ يَصلُحُ للاحتجاجِ به وحدَه, وإمَّا ضعيفٌ يَصلُحُ للشَّواهدِ والمتابَعاتِ, وكلُّ مَن له علمٌ بالحديثِ يشهدُ بأنَّ هذا الأصلَ محفوظٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ لتَعدُّدِ طرقِه, وثقةِ رواتِه, واشتهارِهم بالعدالةِ.

(قال عليُّ بنُ المدينيِّ: لا أعلمُ في: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» حديثًا أصحَّ من حديثِ رافعِ بنِ خَدِيجٍ. وقال في حديثِ شدَّادٍ: لا أرى الحديثينِ إلَّا صحيحينِ.

وقال عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ: صحَّ عندي حديثُ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» من حديثِ ثوبانَ وشدَّادِ بنِ أوسٍ, وأقولُ به, وسمعتُ أحمدَ بنَ حنبلٍ يقولُ به, وذكر أنَّه صحَّ عندَه حديثُ ثوبانَ وشدَّادٍ.

وقال إبراهيمُ الحربيُّ في حديثِ شدَّادٍ: هذا إسنادٌ صحيحٌ تقومُ به الحُجَّةُ, قال: وهذا الحديثُ صحيحٌ بأسانيدَ، وبه نقولُ)(13).

وقال التِّرمذيُّ في كتابِ «العِلَلِ»: (سألتُ البخاريَّ، فقال: ليس في هذا البابِ شيءٌ أصحُّ من حديثِ شدَّادِ بنِ أوسٍ. فقلتُ: وما فيه من الاضطرابِ؟ فقال: كلاهما عندي صحيحٌ؛ لأنَّ يحيى بنَ سعيدٍ روى عن أبي قِلابةَ عن أبي أسماءَ عن ثوبانَ، وعن أبي الأشعثِ عن شدَّادٍ الحديثينِ جميعًا، فقد حكَم البخاريُّ بصحَّةِ حديثِ ثوبانَ وشدَّادٍ)(14).

2- وأمَّا القولُ بأنَّ حديثَيْ شدَّادٍ وثوبانَ منسوخانِ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- احتجَم وهو صائمٌ, والقولُ بالنَّسخِ هو المعتمَدُ عندَ الجمهورِ. فيُجابُ عنه بأنَّ دعوى النَّسخِ لا سبيلَ إلى صحَّتِها؛ لأنَّ النَّسخَ لا يثبتُ إلَّا بشرطينِ، كما هو مُقرَّرٌ عندَ علماءِ الأصولِ:

أحدُهما: التَّعارضُ بينَ الحديثينِ على وجهٍ لا يمكنُ الجمعُ بينَهما.

والثَّاني: العلمُ بتَأخُّرِ أحدِهما.

وكلاهما مُنتَفٍ، فالجمعُ بينَ الحديثينِ ممكنٌ, وليس فيه بيانٌ للتَّاريخِ.

وأمَّا سؤالُ ثابتٍ لأنسٍ: أَكُنْتُمْ تكرهون الحجامةَ؟ قال: لا، إلَّا من أجلِ الضَّعفِ. وفي روايةٍ: على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فهو يدلُّ على أنَّ أنسًا -رضي اللهُ عنه- لم تكنْ عندَه روايةٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّه أفطَر بها، ولا أنَّه رخَّص فيها، بل الَّذي عندَه كراهتُها من أجلِ الضَّعفِ, ولو عَلِمَ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- رخَّص فيها لم يَكرَهْ شيئًا رخَّص فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

3- (وأمَّا حديثُ أبي سعيدٍ في الرُّخصةِ في الحجامةِ؛ فهو مُختلَفٌ فيه, وذكرُ الحجامةِ فيه ليس من كلامِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، بل من كلامِ أبي سعيدٍ -رضي اللهُ عنه-، كما قاله ابنُ خزيمةَ، ولكنَّ بعضَ الرُّواةِ أدرَجه فيه, وليس فيه بيانٌ للتَّاريخِ، ولا يدلُّ على أنَّ هذا التَّرخيصَ كان بعدَ الفتحِ.

وأمَّا قولُ ابنِ حزمٍ وغيرِه: إنَّ الرُّخصةَ لا تكونُ إلَّا بعدَ النَّهيِ. فغيرُ مُسلَّمٍ له بنفسِ الحديثِ؛ فإنَّ فيه: «رخَّص رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في القُبْلةِ للصَّائمِ», ولم يَتقدَّمْ فيه نهيٌ عنها، ولا قال أحدٌ: إنَّ هذا التَّرخيصَ فيها ناسخٌ لمنعٍ تَقدَّمَ. وفي الحديثِ: «إنَّما الماءُ مِن الماءِ» كانت رخصةً في أوَّلِ الإسلامِ, فسمَّى الحكمَ المنسوخَ رُخْصةً معَ أنَّه لم يَتقدَّمْ حظرٌ، بل المنعُ منه مُتأخِّرٌ)(15).

4- وأمَّا تأويلاتُ بعضِهم لأحاديثِ الفِطْرِ بالحجامةِ؛ كحديثِ شدَّادٍ وثوبانَ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ»؛ فأجاب عنها القائلونَ بأنَّ الحجامةَ تُفطِّرُ الصَّائمَ بما يأتي:

أ= أمَّا تأويلُهم لقولِه: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» بأنَّهما سيُفطِرانِ، أو بأنَّهما تَعرَّضا، أو بأنَّه جاز لهما أن يُفطِرا؛ فيُجابُ عنه بأنَّ هذا التَّأويلَ باطلٌ؛ لتَضمُّنِه أمورًا باطلة، منها:

1- الإيهامُ بخلافِ المرادِ.

2- ولأنَّ الصَّحابةَ فَهِمُوا خلافَه.

3- ولأنَّ هذا اللَّفظَ اطَّرَد دونَ مجيئِه بالمعنى الَّذي ذكروه.

4- ولشدَّةِ مُخالَفتِه للوضعِ.

5- ولذكرِ الحاجمِ؛ فإنَّه وإنْ تعرَّض المحجومُ للفِطْرِ بالضَّعفِ؛ فأيُّ ضعفٍ في حقِّ الحاجمِ؟!

6- والتَّعليلُ بكونِ الحاجمِ مُتعرِّضًا لابتلاعِ الدَّمِ, والمحجومِ مُتعرِّضًا للضَّعفِ؛ هذا التَّعليلُ لا يُبطِلُ الفِطْرَ بالحجامةِ، بل هو مُقرِّرٌ للفِطْرِ بها, وإلَّا فلا يجوزُ استنباطُ وصفٍ من النَّصِّ يعودُ عليه الإبطالُ، بل هذا الوصفُ إنْ كان له تأثيرٌ في الفِطْرِ, وإلَّا فالتَّعليلُ به باطلٌ.

ب- (وأمَّا تأويلُ بعضِهم بأنَّ الفِطْرَ فيها لم يكنْ لأجلِ الحجامةِ، بل لأجلِ الغِيبةِ، وذكرُ الحاجمِ والمحجومِ للتَّعريفِ المحضِ؛ كزيدٍ وعمرٍو، لا للتَّأويلِ.

فيُجابُ عنه بأنَّ هذا التَّأويلَ باطلٌ؛ لتَضمُّنِه أمورًا باطلةً، منها:

1- أنَّ ذلك يَتضمَّنُ الإيهامَ والتَّلبيسَ, بأن يذكرَ وصفًا يُرتَّبُ عليه الحكمُ، ولا يكونُ له تأثيرٌ البتَّةَ.

2- أنَّ هذا يُبطِلُ عامَّةَ أحكامِ الشَّرعِ الَّتي رتَّبها على الأوصافِ إذا تَطرَّق إليها مِثلُ هذا التَّأويلِ والوهمِ الفاسدِ؛ فالزِّنا رُتِّب عليه الجلدُ في قولِه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النُّور: 2]، والسَّرقةُ رُتِّب عليها قطعُ اليدِ في قولِه:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وغيرُهما كثيرٌ, فإن جاز أن تكونَ تلك الأوصافُ للتَّعريفِ لا للتَّعليلِ؛ بطَلتِ الأحكامُ!

وعليه، فإنَّه لا يفهمُ أحدٌ من الخاصَّةِ والعامَّةِ إلَّا تَعلُّقَ الأحكامِ بأوصافِها, ومَن قال بخلافِ ذلك وأنَّ الأوصافَ لا تأثيرَ لها في الأحكامِ؛ عُدَّ كلامُه سُخْفًا, فكيف يُضافُ ذلك إلى الشَّارعِ؟!

3- أنَّ في هذا قدحًا في أفهامِ الصَّحابةِ الَّذين هم أعرفُ النَّاسِ وأفهمُ النَّاسِ بمرادِ نبيِّهم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وبمقصودِه من كلامِه؛ حيثُ أفتَوْا بأنَّ الحجامةَ تُفطِّرُ الصَّائمَ، وقد قال أبو موسى -رضي اللهُ عنه- لرجلٍ قال له: أَلَا تحتجمُ نهارًا؟ (أتأمرُني أن أُهَرِيقَ دمي وأنا صائمٌ؟! وقد سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقولُ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ».

4- أنَّ هذا يَتضمَّنُ تعليقَ الحكمِ [وهو الفِطْرُ] بوصفٍ لا ذكرَ له في الحديثِ أصلًا, وإبطالَ تعليقِه بالوصفِ الَّذي علَّقه به الشَّارعُ، وهذا باطلٌ.

5- أنَّه لا يمكنُ أن يتَّفِقَ بضعةَ عشَرَ صحابيًّا على روايةِ أحاديثَ كلُّها مُتَّفِقةٌ بلفظٍ واحدٍ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ»، ويكونُ ذكرُ الحجامةِ لا تأثيرَ له في الفِطْرِ!

6- أنَّ القولَ بأنَّ ذكرَ الحاجمِ والمحجومِ للتَّعريفِ، يُجابُ عنه بأنَّ الأوصافَ تُذكَرُ في النُّصوصِ لتعريفِ أحكامِها، وأنَّها مُرتبِطةٌ بها؛ فأحكامُ الشَّارعِ إنَّما تُعرَفُ بالأوصافِ وتُربَطُ بها.

7- أنَّه لو كان فِطْرُ صاحبِ القِصَّةِ الَّذي مرَّ به النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وقال له: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» لو كان فِطرُه بغيرِ الحجامةِ؛ لَبيَّنه له الشَّارعُ لحاجتِه إليه، وتأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يجوزُ.

8- وقولُهم: (إنَّ الفِطرَ بالغِيبةِ)، يُجابُ عنه بأنَّ هذا باطلٌ لأمورٍ:

أولًا: أنَّ ذلك لا يثبتُ, وإنَّما جاء في حديثٍ واحدٍ: «وهما يغتابانِ النَّاسَ»، وهي زيادةٌ باطلةٌ.

ثانيًا: أنَّه لو ثبت؛ لكان الأخذُ بعمومِ اللَّفظِ الَّذي عُلِّقَ به الحكمُ دونَ الغِيبةِ الَّتي لم يُعلَّقْ بها الحكمُ.

ثالثًا: أنَّه لو كان الفِطرُ بالغِيبةِ؛ لكان مُوجِبُ البيانِ أن يقولَ: (أفطَر المُغتابانِ)، على عادةِ الشَّارعِ.

رابعًا: أنَّ هذا يَتضمَّنُ حملَ الحديثِ على خلافِ الإجماعِ، وتعطيلَ الإجماعِ؛ إذِ المنازِعُ في تفطيرِ الحجامةِ للصَّائمِ لا يقولُ: إنَّ الغِيبةَ تُفطِّرُ. فكيف يحملُ الحديثَ على خلافِ الإجماعِ الَّذي يعتقدُ بطلانَه؟!

خامسًا: أنَّ الغِيبةَ لم يَجْرِ لها ذكرٌ في الحديثِ أصلًا؛ فكيف تُجعَلُ وصفًا في الحكمِ؟! وسياقُ الأحاديثِ يُبطِلُ هذا التَّأويلَ)(16).

ج- وأمَّا تأويلُ بعضِهم للحديثِ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» بأنَّه على حقيقتِه, وأنَّهما قد أفطرا حقيقةً؛ لأنَّ مرورَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بهما مساءً في وقتِ الفِطْرِ, فأخبَر أنَّهما قد أفطَرا ودخلا في وقتِ الفطرِ. فيُجابُ عنه بما يأتي:

1- لا يجوزُ أن يُحمَلَ الحديثُ على ذلك؛ إذْ لا تأثيرَ للحجامةِ حينَئذٍ، بل كلُّ النَّاسِ قد أفطَروا حينَ أمسَوْا ودخلوا في وقتِ الإفطارِ.

2- لو كانا قد أفطَرا لدخولِ وقتِ الإفطارِ -وهو المساءُ-؛ لَمَا كان لقولِ أنسٍ -رضي اللهُ عنه-: (ثُمَّ رخَّص بعدُ في الحجامةِ) فائدةٌ ولا حاجةٌ أصلًا.

3- لو كانا قد أفطَرا لدخولِ وقتِ الإفطارِ -وهو المساءُ-؛ لَمَا كان بالصَّحابةِ حاجةٌ أن يُؤخِّروا احتجامَهم إلى اللَّيلِ, وكيف يُفْتُونَ الأُمَّةَ بفِطْرِهم بأمرٍ قد فُعِلَ مساءً لا تأثيرَ له في الفِطرِ؟!

د- وأمَّا تأويلُ بعضِهم للحديثِ بأنَّ المرادَ من قولِه: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» التَّغليظُ والدُّعاءُ عليهما, لا أنَّه حكمٌ شرعيٌّ. فيُجابُ عنه بأنَّه: كيف يُغلَّظُ عليهما، وهما لم يفعلا مُحرَّمًا ولا مُفطِّرًا؛ بل فعلا ما أباحه الشَّارعُ لهما؟ هذا لا يكونُ, ومتى عُهِدَ في عُرْفِ الشَّارعِ الدُّعاءُ على المكلَّفِ بالفِطرِ وفسادِ العبادةِ؟!

هـ- وأمَّا تأويلُ بعضِهم بأنَّ المرادَ من إفطارِ الحاجمِ والمحجومِ إبطالُ ثوابِ صومِهما، فكأنَّهما صارا غيرَ صائمينِ؛ فيُجابُ عنه بما يأتي:

1- كيف يبطلُ أجرُ الحاجمِ والمحجومِ، وأنتم لا تُحرِّمون الحجامةَ للصَّائمِ، ولا ترون فسادَ الصَّومِ بها؟ فإذا صَحَّ الصَّومُ؛ ترتَّب عليه الأجرُ والثَّوابُ، معَ الإخلاصِ وحسنِ القصدِ.

2- لو كان المرادُ من قولِه: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ» إبطالَ الأجرِ والثَّوابِ؛ لكان ذلك مُقرِّرًا لفسادِ الصَّومِ لا لصحَّتِه, فإنَّ الشَّارعَ حينَئذٍ قد أخبَر عن أمرٍ يَتضمَّنُ بطلانَ أجرِهما لزومًا واستنباطًا, وبطلانَ صومِهما صريحًا؛ فكيف يُعطِّلُ ما دَلَّ عليه صريحُه، ويعتبرُ ما استُنبِط منه؟! معَ أنَّه لا مُنافاةَ بينَه وبينَ الصَّريحِ، بل المعنيانِ حقٌّ, فقد بطَل صومُهما وبطَل أجرُهما إذا كانت الحجامةُ لغيرِ المرضِ.

5- وأمَّا جوابُ الجمهورِ بأنَّ الأحاديثَ لو قُدِّرَ تَعارُضُها؛ لكانَ الأخذُ بأحاديثِ الرُّخصةِ أَوْلَى؛ لمُوافَقتِها للقياسِ, ولشهادةِ أصولِ الشَّريعةِ لها؛ إذِ الفِطْرُ إنَّما قياسُه أن يكونَ بما يدخلُ الجوفَ لا بالخارجِ منه؛ فيُجابُ عنه بما يأتي:

1- أنَّ الأحاديثَ ليست مُتعارِضةً، بل هي مُتَّفِقةٌ, فهذا التَّقديرُ غيرُ واردٍ؛ إذِ الأحاديثُ يُعمَلُ بكُلٍّ منها فيما دَلَّ عليه. (ويُجابُ عن هذا بأنَّه غيرُ مُسلَّمٍ لهم، بل الأحاديثُ مُتعارِضةٌ، فكيف يقولون بأنَّها مُتَّفِقةٌ؟).

2- لو قُدِّرَ تَعارُضُهما وسُلِّمَ ذلك؛ لكان الأخذُ بأحاديثِ الفِطْرِ مُتعيِّنًا؛ لأنَّها ناقلةٌ عن الأصلِ, وأحاديثُ الإباحةِ مُبقِيةٌ ومُوافِقةٌ لما كان الأمرُ عليه قبلَ جعلِها مُفطِّرةً, والقاعدةُ تقولُ: (النَّاقلُ مُقدَّمٌ على المُبْقِي).

3- أنَّه ليس في أحاديثِ الرُّخصةِ لفظٌ صريحٌ صحيحٌ، بل هي ما بينَ صحيحٍ غيرِ صريحِ الدَّلالةِ، بل هو مُحتمَلٌ صريحُ الدَّلالةِ لكنَّه غيرُ صحيحٍ فلا يصلحُ للحُجَّةِ, فكيف تُقدَّمُ على أحاديثِ الفِطْرِ، وهي صحيحةٌ مُتعدِّدةُ الطُّرقِ صريحةٌ في الدَّلالةِ غيرُ مُحتمَلةٍ؟!

وعليه، فقولُ بعضِهم: "فيكونُ القياسُ بأنَّ الفِطْرَ يكونُ بما يدخلُ الجوفَ لا بما يخرجُ منه" فاسدَ الاعتبارِ".

4- القولُ بأنَّ الحجامةَ تُفطِّرُ الصَّائمَ هو الموافقُ للقياسِ, وإنَّ الشَّارعَ علَّق الفطرَ بإدخالِ ما فيه قِوامُ البدنِ من الطَّعامِ والشَّرابِ, وعلَّق الفطرَ أيضًا بإخراجِ القَيْءِ واستفراغِ المَنِيِّ, وجعل خروجَ دمِ الحيضِ والنِّفاسِ مانعًا من الصَّومِ؛ لما فيه من خروجِ الدَّمِ المُضعِفِ للبدنِ.

فالشَّارعُ نهى الصَّائمَ عن أخذِ ما يُعِينُه، وعن إخراجِ ما يُضْعِفُه, وكلاهما مقصودٌ له, فله قصدٌ في حفظِ قُوَّةِ الصَّائمِ عليه كما له قصدٌ في منعِه من إدخالِ المُفطِّراتِ, والفطرُ بالحجامةِ أَوْلَى من الفطرِ بالقَيْءِ نصًّا وقياسًا واعتبارًا.

الراجحُ:

الأقربُ للصَّوابِ في هذه المسألةِ -واللهُ تعالى أعلمُ- ما ذهب إليه أصحابُ القولِ الثَّاني؛ من أنَّ الحجامةَ لا تُفطِّرُ الصَّائمَ مُطلَقًا، كما حكاه ابنُ حجرٍ وغيرُه عن عامَّةِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وتُكرَهُ إذا خَشِيَ المُحتجِمُ الضَّعفَ بها، وهذا الموافقُ للأدلَّةِ، وللجمعِ بينَها.

والقولُ بأنَّ حديثَيْ شدَّادِ بنِ أوسٍ وثوبانَ منسوخانِ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- قويٌّ.

وكذلك عدمُ قُوَّةِ إجابتِهم عن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللهُ عنه-: أَكُنْتُمْ تكرهون الحجامةَ للصَّائمِ؟ قال: لا، إلَّا مِن أجلِ الضَّعفِ(17).

فالأقربُ أنَّ الحجامةَ لا تُفطِّرُ الصَّائمَ.

وعليه، فالأحوطُ أن لا يَحتجِمَ المكلَّفُ وهو صائمٌ؛ خروجًا من الخلافِ المعتبَرِ, وإنِ احتاج إليها فَلْيَحتَجِمْ باللَّيلِ كما قال ابنُ عمرَ -رضي اللهُ عنهما-، وإن احتاج إليها في النَّهارِ وكان لا يمكنُ إرجاؤُها إلى اللَّيلِ؛ فلا بأسَ.

مسألةٌ: إذا قلنا: إنَّ الحاجمَ والمحجومَ يُفطِرانِ بالحجامةِ. فما الحكمةُ؟

قال الفقهاءُ -رحمهم اللهُ تعالى-: إنَّ هذا من بابِ التَّعبُّدِ(18)، والأحكامُ الشَّرعيَّةُ الَّتي لا نعرفُ معناها تُسمَّى عندَ أهلِ الفقهِ: (تَعبُّديَّةً)، بمعنى أنَّ الواجبَ على الإنسانِ أن يَتعبَّدَ للهِ بها؛ سواءٌ عَلِمَ الحكمةَ أم لا.

ولكنْ هل لها حكمةٌ معلومةٌ عندَ اللهِ؟

الجوابُ: نعم، بلا شكٍّ؛ لأنَّ اللهَ -عز وجل- يقولُ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]، فما مِن حُكمٍ مِن أحكامِ الشَّريعةِ إلَّا وله حكمةٌ عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، لكنْ قد تظهرُ لنا بالنَّصِّ أو بالإجماعِ أو بالاستنباطِ، وقد لا تظهرُ؛ لقصورِنا، أو لتقصيرِنا في طلبِها.

والحكمةُ من إفطارِ الصَّائمِ بالحجامةِ على رأيِ المذهبِ؛ سواءٌ كان حاجمًا أو محجومًا:

- فأمَّا المحجومُ؛ فالحكمةُ هي أنَّه إذا خرَج منه هذا الدَّمُ أصاب بدنَه الضَّعفُ، الَّذي يحتاجُ معَه إلى غذاءٍ لتَرتَدَّ إليه قُوَّتُه؛ لأنَّه لو بَقِيَ إلى آخرِ النَّهارِ على هذا الضَّعفِ فرُبَّما يُؤثِّرُ على صحَّتِه في المستقبلِ، فكان من الحكمةِ أن يكونَ مُفطِرًا، وعلى هذا فالحجامةُ للصَّائمِ لا تجوزُ في الصِّيامِ الواجبِ إلَّا عندَ الضَّرورةِ، فإذا جازت للضَّرورةِ جاز له أن يُفطِرَ، وإذا جاز له أن يُفطِرَ جاز له أن يأكلَ، وحينَئذٍ نقولُ: احتَجِمْ وكُلْ واشرَبْ من أجلِ أن تعودَ إليكَ قُوَّتُكَ، وتَسلَمَ ممَّا يُتوقَّعُ من مرضٍ بسببِ هذا الضَّعفِ. أمَّا إذا كان الصَّومُ نفلًا فلا بأسَ بها؛ لأنَّ الصَّائمَ نفلًا له أن يخرجَ من صومِه بدونِ عذرٍ، لكنَّه يُكرَهُ لغيرِ غرضٍ صحيحٍ.

- وأمَّا الحكمةُ بالنِّسبةِ للحاجمِ؛ فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ -رحمه اللهُ تعالى-: (إنَّ الحاجمَ عادةً يَمُصُّ قارورةَ الحجامةِ، وإذا مَصَّها فإنَّه سوف يصعدُ الدَّمُ إلى فمِه، ورُبَّما من شدَّةِ الشَّفطِ ينزلُ الدَّمُ إلى بطنِه من حيثُ لا يشعرُ، وهذا يكونُ شربًا للدَّمِ فيكونُ بذلك مُفطِرًا، ويقولُ: هذا هو الغالبُ ولا عبرةَ بالنَّادرِ)(19).

وقواريرُ الحجامةِ عبارةٌ عن قارورةٍ من حديدٍ يكونُ فيها قناةٌ دقيقةٌ يَمُصُّها الحاجمُ، ويكونُ في فمِه قُطْنةٌ إذا مَصَّها سَدَّها بهذه القطنةِ؛ لأنَّه إذا مصَّها تفرَّغ الهواءُ، وإذا تفرَّغ الهواءُ فلا بدَّ أن يجذبَ الدَّمَ، وإذا جذب الدَّمَ امتلأتِ القارورةُ ثُمَّ سقَطتْ، وما دامت لم تمتلئْ فهي باقيةٌ.

والَّذي يظهرُ -والعلمُ عندَ اللهِ تعالى- أنَّه إذا حُجِمَ بطريقٍ غيرِ مباشرٍ، ولا يحتاجُ إلى مَصٍّ؛ فلا معنى للقولِ بالفطرِ؛ لأنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ يُنظَرُ فيها إلى العِلَلِ الشَّرعيَّةِ.

وقال ابنُ القيِّمِ -رحمه اللهُ تعالى-: (أمَّا الحاجمُ الَّذي يَحجُمُ بالتَّشريطِ -أي شَرْطِ الجلدِ-، ولا يَمُصُّ الدَّمَ؛ فإنَّه لا يُفطِرُ إذا كان صائمًا, وكذا مَن يَحجُمُ ولا يَمُصُّ الدَّمَ، بل يَمُصُّه مُفطِرٌ غيرُه؛ فإنَّه لا يُفطِرُ، وليس في هذا مُخالَفةٌ للنَّصِّ: «أَفطَر الحاجمُ والمحجومُ»؛ لأنَّ كلامَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خرج على الحاجمِ المعتادِ، وهو الَّذي يَمُصُّ الدَّمَ, وكلامُه إنَّما يَعُمُّ الحاجمَ المعتادَ, فاستعمالُه اللَّفظَ فيه بقصرِه على الحاجمِ المعتادِ لا يكونُ تعطيلًا للنَّصِّ)(20).

فإنْ قيل: العِلَّةُ إذا عادت على النَّصِّ بالإبطالِ؛ دَلَّ ذلك على فسادِها. وهذا حاصلُ قولِ ابنِ تيميَّةَ وابنِ القيِّمِ، إذا حجَم الشَّخصُ بآلاتٍ مُنفصِلةٍ؟

فالجوابُ أن يُقالَ: إنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَتكلَّمُ عن شيءٍ معهودٍ في زمنِه، فتكونُ "أل" في: «الحاجم» للعهدِ الذِّهنيِّ المعروفِ عندَهم، والحكمةُ إذا كانت غيرَ مُنضبِطةٍ فإنَّه يُؤخَذُ بعمومِها.

أمَّا الَّذين قالوا: العِلَّةُ تَعبُّديَّةٌ. فيقولونَ: إنَّ الحاجمَ يُفطِرُ، ولو حجَم بآلاتٍ مُنفصِلةٍ؛ لعمومِ اللَّفظِ.

مسألةٌ: هل يلحقُ بالحجامةِ: الفَصْدُ، والشَّرطُ، والإرعافُ، وما أشبَه ذلك؛ كالتَّبرُّعِ بالدَّمِ؟

الفَصْدُ: قطعُ العِرقِ بالعَرْضِ.

والشَّرطُ: شَقُّ العِرقِ بالطُّولِ.

والمذهبُ: أنَّها لا تُلحَقُ بالحجامةِ؛ لأنَّ الأحكامَ التَّعبُّديَّةَ لا يُقاسُ عليها، وهذه قاعدةٌ أصوليَّةٌ فقهيَّةٌ: (أنَّ الأحكامَ التَّعبُّديَّةَ لا يُقاسُ عليها)؛ لأنَّ مِن شرطِ القياسِ اجتماعَ الأصلِ والفرعِ في العِلَّةِ، وإذا لم تكنْ معلومةً فلا قياسَ، فيقولون: إنَّ الفِطْرَ بالحجامةِ تَعبُّديٌّ، فلا يُلحَقُ به الفصدُ والشَّرطُ والإرعافُ ونحوُها، فتكونُ هذه جائزةً للصَّائمِ فرضًا ونفلًا.

أمَّا على ما ذهب إليه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ؛ وهو أنَّ عِلَّةَ الفِطرِ بالحجامةِ معلومةٌ؛ فيقولُ: إنَّ الفصدَ والشَّرطَ يُفسِدانِ الصَّومَ، وكذلك لو أرعَف نفسَه حتَّى خرج الدَّمُ من أنفِه، بأن تَعمَّد ذلك ليَخِفَّ رأسُه؛ فإنَّه يُفطِرُ بذلك. والرَّاجحُ خلافُه على ما قرَّرْناه في مسألةِ الحجامةِ.

ملحوظةٌ: أمَّا مُغالاةُ العامَّةِ بحيثُ إنَّ الإنسانَ لو استاكَ وأدمَتْ لِثَتُه، قالوا: أفطَر. ولو حَكَّ جِلدَه حتَّى خرج الدَّمُ؛ قالوا: أفطَر. ولو قلَع ضِرسَه، وخرج الدَّمُ؛ قالوا: أفطَر. ولو رعَف بدونِ اختيارِه؛ قالوا: أفطَر. فكُلُّ هذه مُبالَغةٌ! فقلعُ الضِّرسِ لا يُفطِّرُ، ولو خرج الدَّمُ؛ لأنَّ قالعَ ضِرْسِه لا يقصدُ بذلك إخراجَ الدَّمِ، وإنَّما جاء خروجُ الدَّمِ تبعًا، وكذلك لو حَكَّ الإنسانُ جِلدَه، أو بطَّ الجرحَ حتَّى خرَجتْ منه المادَّةُ العَفِنةُ؛ فإنَّ كُلَّ ذلك لا يَضُرُّ.

تَتِمَّةٌ: أمَّا الرُّعافُ بدونِ تَسبُّبٍ من الصَّائمِ، وخروجُ الدَّمِ من الدُّمَّلِ والجرحِ؛ فلا يُفطِّرُ الصَّائمَ, وكذا أخذُ الدَّمِ القليلِ من طرَفِ الإِصبَعِ للتَّحليلِ لا يُؤثِّرُ على الصَّومِ, وكذا خروجُ دمِ الاستحاضةِ من المرأةِ لا يمنعُ الصَّومَ، بل صومُها صحيحٌ معَ خروجِه؛ لأنَّ النَّصَّ إنَّما ورد في دمِ الحيضِ والنِّفاسِ؛ ولأنَّ دمَ الاستحاضةِ لا يمنعُ الصَّلاةَ، ولا الطَّوافَ بالبيتِ؛ فكذا الصِّيامُ لا يمنعُه دمُ الاستحاضةِ.

فائدةٌ: أمَّا غسلُ الكُلَى الَّذي يَتضمَّنُ إخراجَ الدَّمِ الفاسدِ وإدخالَ دمٍ جديدٍ؛ فهذا يُفطِرُ به الصَّائمُ؛ لأنَّه مريضٌ، ولا يستطيعُ في هذه الحالةِ الصِّيامَ إلَّا بجهدٍ شديدٍ, واللهُ -عزَّ وجلَّ- أباح الفِطرَ للمريضِ, فيُفطِرُ ويقضي, والحمدُ للهِ على ما يسَّر وسهَّل, وقد قال اللهُ تعالى بعدَ أن ذكر الرُّخصةَ للمريضِ والمسافرِ بالفِطْرِ: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وكذلك عندَ عمليَّةِ الغسلِ فإنَّه يدخلُ معَ الدَّمِ بعضُ المُغذِّياتِ للبدنِ.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم.

واللهُ تعالى أعلمُ وأحكمُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) «المغني» 4/350-351، و«تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّمِ 6/495، و«فتح الباري» 4/174، و«عون المعبود» 6/494-496.

(2) أخرجه أحمدُ 3/465، وأبو داودَ (2367)، والتِّرمذيُّ (774)، وابنُ ماجه (1679)، والدَّارميُّ 2/25، وابنُ خزيمةَ 3/226، وصحَّحه ابنُ خزيمةَ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكمُ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، والنَّوويُّ، وغيرُهم. انظر: «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم 4/494 وما بعدَها، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (931).

(3) أخرجه أبو داودَ (2367)، وابنُ ماجه (1681)، والشَّافعيُّ 1/257، والدَّارميُّ 2/14, وعبدُ الرَّزَّاقِ (7520), والحاكمُ 1/428, والطَّحاويُّ ص349, والبيهقيُّ في «السُّنَنِ» 4/265, وإسنادُه صحيحٌ.

(4) «تهذيب سنن أبي داود» 3/245 تحقيق: محمَّد حامد الفقي، نشر: دار المعرفة.

(5) أخرجه البخاريُّ (1837).

(6) أخرجه البخاريُّ (1838)، وأبو داودَ (2375) بلفظِ: (ما كُنَّا نَدَعُ الحجامةِ للصَّائمِ، إلَّا كراهيةَ الجهدِ).

(7) أخرجه الدَّارقطنيُّ 2/182، وعنه البيهقيُّ في «السُّنَنِ» 4/268، إلَّا أنَّ في المتنِ ما يُنكَرُ؛ لأنَّ ذلك كان في الفتحِ، وجعفرٌ كان قد استُشهِدَ قبلَ ذلك؛ ففيه نظرٌ! وقد حكَم جمعٌ من أهلِ العلمِ بضعفِه ونكارتِه.

(8) أخرجه النَّسائيُّ في «الكبرى» 2/236.

(9) أخرجه الإمامُ أحمدُ 4/314، وأبو داودَ (2374)، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيحِ أبي داودَ» (2080).

(10) «فتح الباري» 4/178.

(11) «فتح الباري» 4/178.

(12) «تهذيب سنن أبي داود» لابنِ القيِّمِ 3/246-247 بتَصرُّفٍ.

(13) «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم 3/244-245.

(14) «العِلَل الكبير» 1/362.

(15) «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم 3/252-253.

(16) «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم 3/253-255 بتصرُّفٍ.

(17) أخرجه البخاريُّ (1838)، وأخرجه أبو داودَ (2375) بلفظِ: (ما كُنَّا نَدَعُ الحجامةَ للصَّائمِ، إلَّا كراهيةَ الجهدِ).

(18) «المبدع» 3/16.

(19) «الفتاوى» 25/257 بتصرُّفٍ.

(20) «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيِّم 4/257 بتصرُّفٍ.

4-وأما تأويلات بعضهم لأحاديث الفطر بالحجامة كحديث شداد وثوبان:« أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ » فأجاب عنها القائلون بأن الحجامة تفطر الصائم بما يأتي:

أ- أما تأويلهم لقوله:« أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ »بأنهما سيفطران، أو بأنهما تعرّضا، أو بأنه جاز لهما أن يفطرا فيجاب عنه بأن هذا التأويل باطل لتضمُّنه أمورا باطلة منها:

1- الإيهام بخلاف المراد.

2- ولأن الصحابة فهموا خلافه.

3- ولأن هذا اللفظ اطرد دون مجيئه بالمعنى الذي ذكروه.

4- ولشدة مخالفته للوضع.

5- ولذكر الحاجم, فإنه وإن تعرض المحجوم للفطر بالضعف, فأي ضعف في حق الحاجم.

6- والتعليل بكون الحاجم متعرضا لابتلاع الدم, والمحجوم متعرضا للضعف هذا التعليل لا يبطل الفطر بالحجامة، بل هو مقرر للفطر بها, وإلا فلا يجوز استنباط وصف من النص يعود عليه الإبطال، بل هذا الوصف إن كان له تأثير في الفطر, وإلا فالتعليل به باطل.

ب- ( وأما تأويل بعضهم بأن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة، بل لأجل الغيبة، وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف المحض كزيد وعمرو لا للتأويل.

فيجاب عنه بأن هذا التأويل باطل لتضمنه أمورا باطلة منها:

1- أن ذلك يتضمن الإيهام والتلبيس, بأن يذكر وصفا يرتب عليه الحكم، ولا يكون له تأثير ألبتة.

2- أن هذا يبطل عامة أحكام الشرع التي رتبها على الأوصاف إذا تطرق إليها مثل هذا التأويل والوهم الفاسد, فالزنا رُتب عليه الجلد في قوله - عز وجل -: ] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [ [النور:2]، والسرقة رتب عليه قطع اليد في قوله - عز وجل -: ] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [ [المائدة:38]، وغيرهما كثير, فإن جاز أن تكون تلك الأوصاف للتعريف لا للتعليل بطلت الأحكام.

وعليه فإنه لا يفهم أحد من الخاصة والعامة إلا تعلق الأحكام بأوصافها, ومن قال بخلاف ذلك وأن الأوصاف لا تأثير لها في الأحكام عُدّ كلامه سخفا, فكيف يضاف ذلك إلى الشارع.

3- أن في هذا قدحا في أفهام الصحابة الذين هم أعرف الناس وأفهم الناس بمراد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وبمقصوده بكلامه, حيث أفتوا بأن الحجامة تفطر الصائم، وقد قال أبو موسى - رضي الله عنه - لرجل قال له: ألا تحتجم نهارا؟ أتأمرني أن أُهريق دمي وأنا صائم؟ وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ».

4- أن هذا يتضمن تعليق الحكم - وهو الفطر - بوصف لا ذكر له في الحديث أصلا, وإبطال تعليقه بالوصف الذي علقه به الشارع، وهذا باطل.

5- أنه لا يمكن أن يتفق بضعة عشر صحابيا على رواية أحاديث كلها متفقة بلفظ واحد:« أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ »ويكون ذكر الحجامة لا تأثير لها في الفطر.

6- أن القول بأن ذكر الحاجم والمحجوم للتعريف يجاب عنه بأن الأوصاف تذكر في النصوص لتعريف أحكامها وأنها مرتبطة بها, فأحكام الشارع إنما تُعرف بالأوصاف، وتربط بها.

7- أنه لو كان فطر صاحب القصة الذي مرّ به النبي - صلى الله عليه وسلم -وقال له:« أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ »لو كان فطره بغير الحجامة لبينه له الشارع لحاجته إليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

8- وقولهم:( إن الفطر بالغيبة ) فيجاب عنه بأن هذا باطل لأمور:

1- أن ذلك لا يثبت, وإنما جاء في حديث واحد: "وهما يغتابان الناس"، وهي زيادة باطلة.

2- أنه لو ثبت لكان الأخذ بعموم اللفظ الذي عُلق به الحكم دون الغيبة التي لم يعلق بها الحكم.

3- أنه لو كان الفطر بالغيبة لكان موجب البيان أن يقول:(أفطر المغتابان ) على عادة الشارع.

4- أن هذا يتضمن حمل الحديث على خلاف الإجماع، وتعطيل الإجماع, إذ المنازع في تفطير الحجامة للصائم لا يقول بأن الغيبة تفطر, فكيف يحمل الحديث على خلاف الإجماع الذي يعتقد بطلانه.

5- أن الغيبة لم يجر لها ذكر في الحديث أصلا, فكيف تجعل وصفا في الحكم, وسياق الأحاديث يبطل هذا التأويل؟)(16).

ج- وأما تأويل بعضهم للحديث: « أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ »بأنه على حقيقته, وأنهما قد أفطرا حقيقة؛ لأن مرور النبي - صلى الله عليه وسلم -بهما مساء في وقت الفطر, فأخبر أنهما قد أفطرا ودخلا في وقت الفطر, فيجاب عنه بما يأتي:

1- لا يجوز أن يُحمل الحديث على ذلك إذ لا تأثير للحجامة حينئذ، بل كل الناس قد أفطروا حين أمسوا ودخلوا في وقت الإفطار.

2- لو كانا قد أفطرا لدخول وقت الإفطار، وهو المساء لما كان لقول أنس - رضي الله عنه -:( ثم رخص بعد في الحجامة) فائدة، ولا حاجة أصلا.

3- لو كانا قد أفطرا لدخول وقت الإفطار، وهو المساء لما كان بالصحابة حاجة أن يؤخروا احتجامهم إلى الليل, وكيف يفتون الأمة بفطرهم بأمر قد فعل مساء لا تأثير له في الفطر؟

د- وأما تأويل بعضهم للحديث بأن المراد من قوله:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ »التغليظ والدعاء عليهما, لا أنه حكم شرعي فيجاب عنه:

بأنه كيف يغلَّظ عليهما، وهما لم يفعلا محرما، ولا مفطرا، بل فعلا ما أباحه الشارع لهما؟ هذا لا يكون, ومتى عُهد في عرف الشارع الدعاء على المكلف بالفطر وفساد العبادة.

هـ - وأما تأويل بعضهم بأن المراد من إفطار الحاجم والمحجوم إبطال ثواب صومهما فكأنهما صارا غير صائمين, فيجاب عنه بما يأتي:

1- كيف يبطل أجر الحاجم والمحجوم وأنتم لا تحرمون الحجامة للصائم، ولا ترون فساد الصوم بها, فإذا صح الصوم ترتب عليه الأجر والثواب مع الإخلاص وحسن القصد.

2- لو كان المراد من قوله: « أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ »إبطال الأجر والثواب لكان ذلك مقررا لفساد الصوم لا لصحته, فإن الشارع حينئذ قد أخبر عن أمر يتضمن بطلان أجرهما لزوما واستنباطا, وبطلان صومهما صريحا، فكيف يعطل ما دل عليه صريحه، ويعتبر ما استنبط منه مع أنه لا منافاة بينه وبين الصريح، بل المعنيان حق, فقد بطل صومهما وبطل أجرهما إذا كانت الحجامة لغير المرض.

5- وأما جواب الجمهور بأن الأحاديث لو قدر تعارضها لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لموافقتها للقياس, ولشهادة أصول الشريعة لها: إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه, فيجاب عنه بما يأتي:

1- إن الأحاديث ليست متعارضة بل هي متفقة, فهذا التقدير غير وارد, إذ الأحاديث يعمل بكل منها فيما دل عليه.(ويجاب عن هذا بأنه غير مسلم لهم بل الأحاديث متعارضة، فكيف يقولوا بأنها متفقة ).

2- لو قدر تعارضهما وسلم ذلك لكان الأخذ بأحاديث الفطر متعين؛ لأنها ناقلة عن الأصل, وأحاديث الإباحة مبقية وموافقة لما كان الأمر عليه قبل جعلها مفطرة, والقاعدة تقول:(الناقل مقدم على المبقي).

3- أنه ليس في أحاديث الرخصة لفظ صريح صحيح، بل هي ما بين صحيح غير صريح الدلالة، بل هو محتمل صريح الدلالة لكنه غير صحيح فلا يصلح للحجة, فكيف تقدم على أحاديث الفطر، وهي صحيحة متعددة الطرق صريحة في الدلالة غير محتملة, وعليه فقول بعضهم: "فيكون القياس بأن الفطر يكون بما يدخل الجوف لا بما يخرج منه فاسد الاعتبار".

4- القول بأن الحجامة تفطر الصائم هو الموافق للقياس, وإن الشارع علق الفطر بإدخال ما فيه قوام البدن من الطعام والشراب, وعلق الفطر أيضا بإخراج القيء واستفراغ المني, وجعل خروج دم الحيض والنفاس مانعا من الصوم, لما فيه من خروج الدم المضعف للبدن.

فالشارع نهى الصائم عن أخذ ما يعينه، وعن إخراج ما يضعفه, وكلاهما مقصود له, فله قصد في حفظ قوة الصائم عليه كما له قصد في منعه من إدخال المفطرات, والفطر بالحجامة أولى من الفطر بالقيء نصا وقياسا واعتبارا.

الراجح:

الأقرب للصواب في هذه المسألة - والله تعالى أعلم – ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من أن الحجامة لا تفطر الصائم مطلقاً، كما حكاه ابن حجر وغيره عن عامة الصحابة والتابعيين، وتكره إذا خشي المحتجم الضعف بها، وهذا الموافق للأدلة، وللجمع بينها.

والقول بأن حديث شداد بن أوس وثوبان منسوخان بحديث ابن عباس - رضي الله عنهم - قوي.

وكذلك عدم قوة إجابتهم عن حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا؛ إلا من أجل الضعف(17)، فالأقرب أن الحجامة لا تفطر الصائم.

وعليه فالأحوطأن لا يحتجم المكلف وهو صائم خروجاً من الخلاف المعتبر, وإن احتاج إليها فليحتجم بالليل كما قال ابن عمر - رضي الله عنهما -، وإن احتاج إليها في النهار وكان لا يمكن إرجاؤها إلى الليل فلا بأس.

والحمد لله رب العالمين والله أعلم وأحكم

ـــــــــــــــــــــــ

(1)المغني(4/350-351)، وتهذيب سنن أبي داود لابن القيم(6/495)، وفتح الباري(4/174)، وعن المعبود(6/494-496).

(2)أخرجه أحمد(3/465)، وأبو داود(2367)، والترمذي(774)، وابن ماجه(1679)، والدارمي(2/25)، وابن خزيمة(3/226)، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وعلي بن المديني، والنووي وغيرهم, انظر تهذيب سنن أبي داود لابن القيم(4/494) وما بعدها، وصححه الألباني في الإرواء(931).

(3)أخرجه أبو داود(2367)، وابن ماجه(1681)، والشافعي(1/257)، والدارمي(2/14), وعبدالرزاق(7520), والحاكم(1/428), والطحاوي (ص:349), والبيهقي في السنن(4/265), وإسناده صحيح.

(4)تهذيب سنن أبي داود (3/245)تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة.

(5)أخرجه البخاري(1837).

(6)أخرجه البخاري(1838)،وأبو داود(2375) بلفظ:( ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد).

(7)أخرجه الدارقطني(2/182)، وعنه البيهقي في السنن(4/268)، إلا أن في المتن ما ينكر لأن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قد استشهد قبل ذلك، ففيه نظر، وقد حكم جمع من أهل العلم على ضعفه ونكارته.

(8)أخرجه النسائي في الكبرى(2/236).

(9)أخرجه الإمام احمد(4/314)، وأبو داود(2374)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود(2080).

(10)فتح الباري(4/178).

(11)المصدر السابق.

(12)تهذيب سنن أبي داود لابن القيم(3/246-247)بتصرف.

(13)تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (3/244-245).

(14)العلل الكبير (1/362)الأقصى.

(15)تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (3/252-253).

(16)تهذيب سنن أبي داود لابن القيم(3/253- 255)بتصرف.

(17)أخرجه البخاري(1838)،وأخرجه أبو داود(2375) بلفظ:( ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد).

هذه_المسألةُ_قد_اختلَف_فيها_العلماءُ_اختلافًا_عظيمًا؛_وذلك_لقُوَّةِ_الأدلَّةِ_في_ذلك_معَ_تعارضِها_الظَّاهريِّ

روابط ذات صلة

المسألة السابق
المسائل المتشابهة المسألة التالي

.

تصميم وتطوير كنون