۩ البحث ۩



البحث في

۩ إحصائية الزوار ۩

الاحصائيات
لهذا اليوم : 859
بالامس : 2021
لهذا الأسبوع : 5255
لهذا الشهر : 29492
لهذه السنة : 125384
منذ البدء : 3739662
تاريخ بدء الإحصائيات : 3-12-2012

۩ التواجد الآن ۩

يتصفح الموقع حالياً  22
تفاصيل المتواجدون

:: حديثُ الإخلاصِ ::

المقال

:: حديثُ الإخلاصِ ::

 د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

ومنه المعونةُ والتَّسديدُ

حديثُ الإخلاصِ

في معركةٍ من المعاركِ الَّتي خاضها الصَّحابةُ الكرامُ معَ النَّبيِّ -عليه السَّلام- في يومٍ شديدٍ هَوْلُه، عظيمٍ خَطَرُه، يَتَراءَى للعِيانِ رجلٌ حاملٌ سيفَه، مُتَّشِحٌ دِرْعَه، يَشُقُّ الصُّفوفَ شقًّا، ويُفرِّقُ الجموعَ بأسًا، يحملُ رُوحَه على كفِّه، بائعٌ لها بأرخصِ الأثمانِ، لا يَدَعُ شاذَّةً ولا فاذَّةً إلَّا اتَّبَعَهَا يَضرِبُها بسيفِه، في شجاعةٍ مُنقطِعةِ النَّظيرِ، وشَكِيمةٍ لا تُغالَبُ، حتَّى تَحدَّث القومُ عنه وقالوا: ما أَجْزَأَ مِنَّا اليومَ أحدٌ كما أَجْزَأَ فلانٌ! لم يُقاتِلْ مُقاتِلٌ مِثلَه، ولم يَحمِلْ مجاهدٌ كحَمْلِه!

فيُفاجَأُ الجميعُ هنا بقولِ الرسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «أَمَا إنَّه مِن أهلِ النَّارِ»!! فشَقَّ ذلك على الصَّحبِ الكرامِ .. رجلٌ لا كالرِّجالِ، وشجاعٌ يُقْدِمُ إقدامَ الأبطالِ، ثُمَّ يقولُ عنه المصطفى -عليه السَّلام-:«إنَّه مِن أهلِ النَّارِ»، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ الجبَّارِ!

ما خبرُ هذا الشَّجاعِ، وما جَرِيرتُه الَّتي ذهَبتْ بجهادِه، ودنَّستْ عملَه؟!

ومعَ هذه الدَّهشةِ والهولِ قال رجلٌ مِن القومِ: أنا صاحبُه. أنا آتِيكم بنبئِه، وأَبْلُو خبرَه. فخرَج معَه، كُلَّما وقَف وقَف معَه، وإذا أَسرَع أَسرَع معَه، قال: فجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شديدًا، فاستَعجَل الموتَ، فوضَع نَصْلَ سيفِه بالأرضِ وذُبَابَه بينَ ثَدْيَيْه، ثُمَّ تَحامَل على سيفِه، فقتَل نَفْسَه!

فخرَج الرَّجُلُ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: أَشهَدُ أنَّكَ رسولُ اللهِ. فقال له النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-:«وما ذاكَ؟» قال: الرَّجُلُ الَّذي ذكَرتَ آنِفًا أنَّه مِن أهلِ النَّارِ، فأَعظَمَ النَّاسُ ذلك، فقُلْتُ: أنا لكم به. فخرَجتُ في طَلَبِه، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شديدًا، فاستَعجَلَ الموتَ، فوضَع نَصْلَ سيفِه في الأرضِ وذُبَابَهُ بينَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عليه، فقَتَلَ نَفْسَهُ. فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عندَ ذلك:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عملَ أهلِ الجنَّةِ فيما يبدو للنَّاسِ، وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عملَ أهلِ النَّارِ فيما يبدو للنَّاسِ، وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ».[أخرجه البخاريُّ (2898)، ومسلمٌ(320) عن سهلِ بن سعدٍ رضي اللهُ عنه].

فيا لَلَّهِ العَجَبُ! ما هذا الأمرُ الَّذي جعله يأتي بعملِ أهلِ النَّارِ وهو بينَ صَكَّاتِ السُّيوفِ ومواقعِ النَّبْلِ؟! إنَّها النِّيَّةُ يا عبادَ اللهِ، نَعَمْ .. النِّيَّةُ التي أفسدتْ عليهِ عمَلَه.

نيَّةٌ لم تكنْ للهِ خالصةً، ما أراد وجهَ اللهِ، وما قصَد رضاه، بل كان يُقاتِلُ حَمِيَّةً أو ليُرَى مكانُه، والعياذُ باللهِ!

أيُّها النَّاس: إنَّ حديثَنا اليومَ عن أهلِ الصِّدقِ والنَّقاءِ، وأهلِ الصَّلاحِ في الخفاءِ، أصحابِ الخَلَواتِ الطَّاهرةِ، والقلوبِ العامرةِ؛ إنَّه حديثُ الخواصِّ من المؤمنينَ والأولياءِ، إنَّه (حديثُ الإخلاصِ).

إنَّه حديثُ القلوبِ، ونِسْمةُ الأفئدةِ، عندَما تستمعُ إليه الآذانُ تُطرِقُ، فتَتَشرَّبُه القلوبُ وتَفقَهُ، عندَها يَتغيَّرُ حالُها، ويستقيمُ أمرُها، وتُخْلِصُ للهِ أعمالَها.

الإخلاصُ: تنقيةُ العبادةِ، والبعدُ عن كلِّ ما يُدنِّسُ ويُفسد العمل.

الإخلاصُ: تركُ حظوظِ النَّفسِ، والبعدُ عن كلِّ نصيبٍ لها في الدُّنيا.

الإخلاصُ: تصفيةُ القلبِ من الشِّركِ والشَّكِّ، فيُصفي القلبَ من الشِّركِ الجليِّ والخفيِّ، الأكبرِ والأصغرِ.

الإخلاصُ هو الإيمانُ كلُّه، هو لُبُّ العبادةِ وأُسُّها.

لا قَبولَ للعملِ بدونِه، ولا نجاةَ للعبدِ بينَ يديِ اللهِ إذا فقَدَه.

الإخلاصُ لله في العملِ مع موافقةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- هما رُكنَا العبادةِ التي لا تَصحُ إِلا بهما.

المخلصُ لا يستجدي مدحَ النَّاسِ أبدًا، ولا يُريدُ بعملِه الدُّنيا، ولا يُسابِقُ إليها ولا يرجوها، {مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّساء: 123].

الإخلاصُ سببٌ للنَّجاةِ في الدُّنيا والأخرى:

يقولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «بينَما ثلاثةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ المطرُ، فأَوَوْا إلى غارٍ في جبلٍ، فَانْحَطَّتْ على فَمِ غارِهم صخرةٌ مِن الجبلِ فَانْطَبَقَتْ عليهم، فقال بعضُهم لبعضٍ: انْظُرُوا أعمالًا عَمِلتُمُوها صالحةً للهِ -عزَّ وجلَّ-، فَادْعُوا اللهَ بها؛ لعلَّه يُفرِّجُها عنكم.

فقال أحدُهم: اللَّهُمَّ إنَّه كان لي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كبيرانِ، وَامْرَأَتِي، ولي صِبْيةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عليهم، فإذا أَرَحْتُ عليهم حَلَبتُ، فبَدَأتُ بوَالِدَيَّ فسَقَيتُهما قبلَ بَنِيَّ، وإنِّي نأَى بي ذاتَ يومٍ الشَّجَرُ، فلم آتِ حتَّى أَمسَيتُ، فوجَدتُهما [أي والِدَيْه] قد ناما، فحَلَبتُ كما كنتُ أَحلُبُ، فجِئتُ بالحِلابِ، فقُمْتُ عندَ رُؤُوسِهما أَكْرَهُ أنْ أُوقِظَهما مِن نَوْمِهما، وأَكْرَهُ أن أَسْقِيَ الصِّبْيةَ قبلَهما، والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عندَ قَدَمَيَّ، فلم يَزَلْ ذلك دَأْبِي ودَأْبَهم حتَّى طلَع الفجرُ [أي أنَّه ظلَّ واقفًا، والصِّبيةُ عندَ قدَمَيْه يبكون من الجوعِ. الله! ما ألذَّ هذا المشهدَ للبَرَرةِ الأوفياءِ، وما أثقلَه على العَقَقةِ الأشقياءِ!! الشَّاهدُ: أنَّه لم يُطعِمْ أحدًا قبلَ والدَيْه. ثُمَّ قال: اللَّهمَّ إنْ كنتَ تَعلَمُ أنِّي فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِكَ؛ فَافْرُجْ لنا منها فُرْجةً نَرَى منها السَّماءَ. ففَرَجَ اللهُ منها فُرْجةً، فرَأَوْا منها السَّماءَ.

وقال الآخَرُ: اللَّهُمَّ إنَّه كانت لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُها كأَشَدِّ ما يُحِبُّ الرِّجالُ النِّساءَ، وطَلَبتُ إليها نَفْسَهَا [أي: راوَدَها عن عِرْضِها!] فأَبَتْ حتَّى آتِيَها بمِئَةِ دينارٍ، فتَعِبتُ حتَّى جَمَعتُ مئةَ دينارٍ [استَغَلَّ فقرَها وحاجتَها؛ لينالَ منها عِرْضَها!] قال: فجِئتُها بها، فلَمَّا وَقَعتُ بينَ رِجْلَيْها؛ قالتْ: يا عبدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ، ولا تَفتَحِ الخاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ. فقُمْتُ عنها. [أي أنَّه ترَكَها وترك لها المالَ أيضًا]. فقال هنا: اللَّهُمَّ إنْ كنتَ تَعلَمُ أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ؛ فَافْرُجْ لنا منها فُرْجةً. ففُرِجَ لهم.

وقال الآخَرُ: اللَّهُمَّ إنِّي كنتُ اسْتَأْجَرتُ أَجِيرًا بفَرَقِ أَرُزٍّ، فلَمَّا قضَى عملَه قال: أَعْطِنِي حقِّي. فعَرَضتُ عليه فَرَقَه فرَغِبَ عنه [يعني: تَقَالَّه، فلم يَأخُذْه، وذهَب غضبانَ] قال: فلم أَزَلْ أَزرَعُه حتَّى جَمَعتُ منه بَقَرًا ورِعاءَها [أي أنَّه اتَّجَر بفَرَقِ الأَرُزِّ هذا، حتَّى حصَّل منه مالًا عظيمًا] قال: فجَاءَني فقال: اتَّقِ اللهَ، ولا تَظْلِمْني حقِّي. قُلْتُ: اذْهَبْ إلى تلك البقرِ ورِعائِها، فخُذْها. فقال: اتَّقِ اللهَ، ولا تَستَهْزِئْ بي! [حقِّي قليلٌ، وأنت تقول: خُذْ هذا الواديَ من البقرِ!!] قال: فقُلْتُ: إنِّي لا أَسْتَهْزِئُ بكَ، خُذْ ذلك البَقَرَ ورِعاءَها. قال: فأَخَذَهُ فذَهَبَ به، ولم يَترُكْ شيئًا. ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ إنْ كنتَ تَعْلَمُ أنِّي فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِكَ؛ فَافْرُجْ لنا ما بَقِيَ. ففَرَجَ اللهُ ما بَقِيَ، فخرَجوا يمشون. [أخرجه مسلمٌ (2843) عن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما].

فالإخلاصُ وابتغاءُ وجهِ اللهِ أنجاهم في الدُّنيا.

وأمَّا نجاةُ الأُخرَى؛ فيقولُ أبو هُرَيرةَ -رضي اللهُ عنه- قلتُ: يا رسولَ اللهِ، مَن أَسْعَدُ النَّاسِ بشفاعتِكَ يومَ القيامةِ؟ قال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «لقد ظَنَنْتُ يا أبا هُرَيرةَ أنْ لا يَسأَلَني عن هذا الحديثِ أَحَدٌ أَوَّلُ منكَ؛ لِمَا رأيتُ مِن حِرْصِكَ على الحديثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بشفاعتي يومَ القيامةِ مَن قال: "لا إلهَ إلَّا اللهُ"، خالصًا مِن قلبِه أو نَفْسِهِ» [أخرجه البخاريُّ (100)].

نعم، الإخلاصُ نجاةٌ في الدُّنيا والآخرةِ، فلا خَلاصَ إلَّا بالإخلاصِ.

لقد كان الخِيرةُ ممَّن سلَف وغبَر حريصينَ على إخفاءِ أعمالِهم، كارهينَ لإظهارِها، مريدينَ وجهَ اللهِ تعالى، مُخلِصينَ له:

فهذا عليُّ بنُ الحسينِ «زَيْنُ العابدينَ» يحملُ الصَّدقاتِ والطَّعامَ ليلًا على ظهرِه، ويُوصِلُه إلى بيوتِ الأراملِ والفقراءِ في المدينةِ، ولا يعلمون مَن وضَعَها، وكان لا يستعينُ بخادمٍ ولا عبدٍ أو غيرِه؛ لئلَّا يطَّلِعَ عليه أحدٌ، وبَقِيَ كذلك سنواتٍ طويلةً، وما كان الفقراءُ والأراملُ يعلمون كيف جاءهم هذا الطَّعامُ، فلمَّا مات وَجَدُوا على ظهرِه آثارًا من السَّوادِ، فعَلِموا أنَّ ذلك بسببِ ما كان يحملُه على ظهرِه، فما انقطَعتْ صدقةُ السِّرِّ في المدينةِ حتَّى مات زَينُ العابدينَ!

إنَّه الإخلاصُ في أسمى صُوَرِه، إنَّه الصِّدقُ في ثوبِه القَشِيبِ النَّقيِّ الطَّاهرِ.

وفي مشهدٍ تُجلِّلُه المهابةُ والصِّدقُ يقولُ عَبْدةُ بنُ سليمانَ المَرْوَزيُّ: كُنَّا في سَرِيَّةٍ معَ ابنِ المباركِ في بلادِ الرُّومِ، فصادَفْنا العَدُوَّ، فلمَّا التقى الصَّفَّانِ خرج رجلٌ من العَدُوِّ فدعا إلى البِرازِ، فخرَج إليه رجلٌ من المسلمينَ فقتله، ثُمَّ خرج آخَرُ من الكُفَّارِ فخرج إليه صاحبُنا نفسُه فقتَله، ثُمَّ خرج ثالثٌ فدعا إلى البِرازِ، فخرج إليه صاحبُنا فطارَده ساعةً ثُمَّ طعَنه فقتَله .. قتَل ثلاثةً .. تَحَدٍّ أمامَ الجيشينِ، فازدحَم النَّاسُ إلى هذا البطلِ الَّذي قتَل ثلاثةً من العدوِّ، يقولُ عَبْدةُ بنُ سليمانَ: فكنتُ فيمَن ازدَحَم إليه، فإذا به يُغطِّي وجهَه بكُمِّه لِئلَّا يراه أحدٌ! قال عَبْدةُ: فأخذتُ بطَرَفِ كُمِّه فمَدَدتُه [أي أَزَحتُ اللِّثاَم عن وجهِه]، فإذا هو عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، فقال له ابنُ المباركِ: (وأنتَ يا أبا عمرٍو ممَّن يُشنِّعُ علينا)؛ أي: ممَّن يُظهِرُ أعمالَنا! [يُنظَر: «تاريخ بغداد» 11/406 ت بشَّار عوَّاد].

سبحانَ اللهِ! إنَّه موقفُ المؤمنِ الصَّادقِ الَّذي يريدُ ما عندَ اللهِ، ويُرتِّلُ قولَه جَلَّ وعلا: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].

إنَّ أهلَ الإخلاصِ لا يُعرَفون بينَ النَّاسِ إلَّا بظواهرِهم، أمَّا بواطنُهم فلِلَّهِ ربِّ العالمينَ، معرفون في السَّماءِ، ولا يَضِيرُهم جهلُ أهلِ الأرضِ بهم؛ يقولُ مُدْرِكُ بنُ عوفٍ الأَحْمَسيُّ: بينَما أنا عندَ عمرَ، إذْ أتاه رسولُ النُّعمانِ بنِ مُقرِّنٍ [وذلك في واقعةِ نَهاوَنْدَ]، فسأله عمرُ عن النَّاسِ، فذكَر مَن أُصِيبَ من المسلمينَ، وقال: قُتِل فلانٌ، وقُتِل فلانٌ، وقُتِل فلانٌ، وآخَرُونَ لا نعرفُهم. فقال عمرُ: (لَكِنَّ اللهَ يعرفُهم) [«المُصنَّف» لابنِ أبي شيبةَ (34368)، وسندُه صحيحٌ، كما قال الحافظُ في «الإصابةِ» 8/238 ط هجر].

نعم، (لكنَّ اللهَ يعرفُهم)، هذه هي المنزلةُ النَّقيَّةُ، والمكانةُ السَّامِقةُ العَلِيَّةُ!

رجالٌ لا يُسابِقونَ إلى مواطنِ العلوِّ في الأرضِ، بل لمنازلِ الرِّفعةِ والدَّرجاتِ العُلا عندَ العليِّ الأعلى؛ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ ولا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

إنَّ مِن أعظمِ أسبابِ غيابِ الإخلاصِ في أعمالِ كثيرٍ مِنَّا هو: طلبُ الدُّنيا، ومحبَّةُ المدحِ والثَّناءِ؛ فإنَّ الإخلاصَ لا يَستقِرُّ في قلبٍ مُلِئَ بمحبَّةِ المدحِ والثَّناءِ والطَّمعِ فيما عندَ النَّاسِ؛ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ _ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15-16].

في مشهدٍ من مشاهدِ الصِّدقِ، ونموذجٍ من نماذجِ الإخلاصِ، يقولُ أبو عمرَ الصَّفَّارُ: حاصَر مَسْلَمةُ [بنُ عبدِالملكِ] حِصْنًا، فندَب النَّاسَ إلى نَقْبٍ منه -والنقبُ فتحتةٌ صغيرةٌ تصلُ إلى العدو- وقال: مَن يدخلُ ليفتحَ لنا؟ فما دخله أحدٌ! فجاءه رجلٌ مِن عُرْضِ الجيشِ، فدخله، ففتَح اللهُ عليهم؛ فنادى مَسْلَمةُ: أين صاحبُ النَّقْبِ؟ أين صاحبُ النَّقْبِ؟ فما جاءه أحدٌ! فنادى القائدُ بالجيشِ: إنِّي قد أمرتُ الآذِنَ بإدخالِه ساعةَ يأتي، فعزَمتُ عليه إلَّا جاء. فجاء رجلٌ فقال: استَأْذِنْ لي على الأميرِ. فقال له: أنت صاحبُ النَّقبِ؟ قال: أنا أُخبِرُكم عنه. فأتى مسلمةَ فقال له: إنَّ صاحبَ النَّقبِ يأخذُ عليكم ثلاثًا [أي: يشترطُ شروطًا ثلاثةً]: ألَّا تُسوِّدوا اسمَه في صحيفةٍ إلى الخليفةِ [أي: لا ترفعوا باسمِه للخليفةِ]، ولا تأمروا له بشيءٍ [يعني: من المالِ والعطاءِ]، ولا تسألوه: مِمَّنْ هو؟ [يعني: لا تَستَخْبِروا عن اسمهِ ونسبِه]. قال القائدُ مسلمةُ: فذلك له. فقال الرَّجلُ: أنا هو. فتَعجَّبَ مسلمةُ من إخلاصِه، فكان لا يُصلِّي بعدَها صلاةً إلَّا قال: (اللَّهُمَّ اجعَلْني معَ صاحبِ النَّقبِ) [يُنظَر: «عيون الأخبار» لابنِ قُتَيبةَ 1/262 (806) تحقيق: منذر أبو شعر، و«المُجالَسة وجواهر العلم» للدِّينَوَريِّ 4/200-201 (1354) تحقيق: مشهور سلمان]. هذه سِيَرُ المخلصين، وهذا خبرُ المُنِيبِينَ، مَن باعوا الدُّنيا واشتَرَوُا الآخرةَ!

أَلا وإنَّ من علاماتِ الإخلاصِ يا عبادَ اللهِ: أن يستويَ العملُ في السِّرِّ والعلنِ، في الظَّاهرِ والباطنِ، في الخَلْوةِ والجَلْوةِ، في الجهرِ والخفاءِ؛ فحينما يزدادُ العملُ معَ الثَّناءِ، ويَنقُصُ معَ الذَّمِّ؛ فهذا العملُ فيه دَخَنٌ! نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ.

اللَّهُمَّ إنَّا نسأَلُك الإِخلاصَ في القولِ والعملِ، اللَّهُمَّ أَخلص أَعمالنا لك، وتقبل مِنَّا إِنَّك أنتَ السَّميعُ العليم.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

حديثُ , وتُخْلِصُ , فتَتَشرَّبُه , القلوبِ، , ويستقيمُ , الآذانُ , الأفئدةِ، , إنَّه , عندَها , عندَما , إليه , القلوبُ , وتَفقَهُ، , تُطرِقُ، , أعمالَها , حالُها، , أمرُها، , للهِ , تستمعُ , ونِسْمةُ , يَتغيَّرُ

جديد المقالات

.

تصميم وتطوير كنون