۩ البحث ۩



البحث في

۩ إحصائية الزوار ۩

الاحصائيات
لهذا اليوم : 44
بالامس : 1225
لهذا الأسبوع : 5665
لهذا الشهر : 29902
لهذه السنة : 125794
منذ البدء : 3740072
تاريخ بدء الإحصائيات : 3-12-2012

۩ التواجد الآن ۩

يتصفح الموقع حالياً  40
تفاصيل المتواجدون

:: عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ .. فضائلُ وأحكامٌ ::

المقال

:: عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ .. فضائلُ وأحكامٌ ::

 د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

ومنه المعونةُ والتَّسديدُ

( عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ .. فضائلُ وأحكامٌ )

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا. مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

أمَّا بعدُ؛ فأخرج البخاريُّ في «صحيحِه» من حديثِ ابنِ عُمَرَ -رضي اللهُ عنهما- أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».

ففي هذا الحديثِ العظيمِ أنَّ الأُمَمَ قَبْلَنا يعملون كثيرًا ويُؤجَرُون على عملِهم بدونِ زيادةٍ، وأمَّا نحنُ فنعملُ قليلًا ونُؤجَرُ كثيرًا، عملٌ قليلٌ وعطاءٌ من اللهِ الجليلِ كثيرٌ، أعمالٌ يسيرةٌ وخيراتٌ من اللهِ الكريمِ جزيلةٌ؛ فله الحمدُ والثَّناءُ على ما مَنَّ به من البركةِ والعطاءِ.

إنَّ اللهَ تعالى قد جعل هذه الحياةَ مِضمارًا للمُتسابِقينَ إلى جنَّاتِه جنَّاتِ النَّعيمِ، ومُنافَسةً في الأعمالِ الصَّالحاتِ، ومجالًا للمُسابَقةِ والمُسارَعةِ للخيراتِ.

ثُمَّ نوَّع -سُبحانَه- في الأعمالِ الصَّالحاتِ، فشَرَعَ الصَّلاةَ والصِّيامَ، والحَجَّ وقراءةَ القرآنِ، والجهادَ والإحسانَ إلى الأقاربِ والجيرانِ، والصَّدقةَ وبذلَ المعروفِ والإحسانِ، والذِّكرَ والقيامَ في رمضانَ، والعمرةَ والدَّعوةَ إلى الكريمِ الرَّحمنِ، وغيرَها من العباداتِ والقُرُباتِ لربِّنا المنَّانِ، ثُمَّ أَوجَب من هذه الأعمالِ وتلك القرباتِ ما لا يتمُّ إيمانُ العبدِ إلَّا به، ولا يَكمُلُ دِينُه إلَّا بالمحافظةِ عليه، ثُمَّ فتح بابَ النَّفْلِ فيها، وجعل لكلِّ مخلوقٍ ما يُسِّرَ له، وجعل سعيَ النَّاسِ شَتَّى، ففتح لمَن شاء أبوابًا من الطَّاعاتِ، وخصَّ بعضَهم ببعضِ العباداتِ، وأكرَم آخرينَ بأبوابٍ من القرباتِ، ومعَ هذا وذاك لم يُكلَّفِ العبدُ فوقَ طاقتِه، بل كلَّفه اللهُ بما يُطِيقُ ويستطيعُ.

وهذا التَّنويعُ في الطَّاعاتِ دليلٌ عظيمٌ على عظيمِ فضلِ اللهِ وسَعةِ رحمتِه وجزيلِ مَنِّه؛ حيثُ فتح أبوابَ البِرِّ والإحسانِ لكلِّ مُكلَّفٍ يلجُ مِن أيِّها شاء:

فمِن النَّاسِ مَن فُتِح له في بابِ الصَّلاةِ، فتجدُه ساجدًا راكعًا، مُخبِتًا مُنِيبًا، ومنهم مَن فُتِح له في بابِ الصِّيامِ، وثالثٌ في بابِ البرِّ والإحسانِ، ورابعٌ في بابِ العلمِ وحفظِ القرآنِ، وخامسٌ في الجهادِ، وسادسٌ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وسابعٌ في الذِّكرِ لربِّنا الرَّحمنِ، وثامنٌ في بِرِّه بوالديه والإحسانِ إليهما؛ فاللهُ قَسَم الأعمالَ كما قسم الأرزاقَ بينَ العبادِ.

ومِن تلك المواسمِ والطَّاعاتِ، والنَّفَحاتِ والبركاتِ ما كان من العَشْرِ المُبارَكاتِ، عَشْرِ ذي الحِجّةِ، أيَّامٌ قليلةٌ وهي عندَ اللهِ عظيمةٌ، والدَّليلُ على عَظَمَتِها أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَقسَم بها في كتابِه -واللهُ لا يُقسِمُ إلَّا بعظيمٍ- فقال العظيمُ: {وَالْفَجْرِ $ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفَجْر:1-2].

واللَّيالي العَشْرُ هي عشرُ ذي الحجَّةِ، وهذا ما عليه جمهورُ المُفسِّرِينَ من السَّلفِ والخلفِ، وقال الحافظُ ابنُ كثيرٍ في «تفسيرِه» 4/611:( وهو الصَّحيحُ ).

وقد جاء في فضلِها أحاديثُ كثيرةٌ، منها: ما جاء مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ» يَعنِي أيَّامَ العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِه ومالِه فلم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ» [أخرجه البخاريُّ (926)، وأبو داودَ (2438) واللَّفظُ له].

قال الحافظُ ابنُ رجبٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (وقد دَلَّ الحديثُ على أنَّ العملَ في أيَّامِه أحبُّ إلى اللهِ من العملِ في أيَّامِ الدُّنيا مِن غيرِ استثناءٍ) [«لطائف المعارف» ص468].

فعلى المسلمِ أن يطلُبَ الخيرَ دهرَه، ويتَعرَّضَ لنَفَحاتِ رحمةِ ربِّه؛ فإنَّ للهِ نَفَحاتٍ من رحمتِه يُصِيبُ بها مَن يشاءُ من عبادِه، فتَعرَّضْ لها، فلعلَّ أن تُصِيبَك نفحةٌ فلا تشقى بعدَها أبدًا.

إنَّنا نعيشُ في هذه الأيَّامِ مواسمَ الخيراتِ والطَّاعاتِ الَّتي أكرَمنا بها ربُّ الأرضِ والسَّماواتِ، مواسمَ الصَّلاحِ الَّتي يُضاعَفُ للمُؤمنينَ فيها من الأجورِ والأرباحِ، وهذه هِبَاتٌ ربَّانيَّةٌ لا تكونُ إلَّا للأُمَّةِ المُحمَّديَّةِ أُمَّةِ العملِ القليلِ والأجرِ الكبيرِ والفضلِ العظيمِ.

إنَّ العباداتِ في هذه العَشْرِ المُبارَكاتِ يُمكِنُ تقسيمُها إلى قسمينِ:

القِسمُ الأوَّلُ: عباداتٌ خاصَّةٌ لا تُشرَعُ إلَّا في هذه العشرِ؛ كالحجِّ، والأضحيةِ، والتَّكبيرِ.

والقِسمُ الثَّاني: عباداتٌ تُشرَعُ في هذه الأيَّامِ وفي غيرِها؛ كالصَّلاةِ، والصِّيامِ، والصَّدقةِ، والذِّكرِ للهِ الرَّحمنِ.

فأمَّا القسمُ الأوَّلُ، وهو العباداتُ الَّتي لا تُشرَعُ إلَّا في هذه العشرِ، وهي:

أوَّلًا: الحجُّ، والأمرُ فيه معلومٌ، والنُّصوصُ في فضلِه ومكانتِه كثيرةٌ مشهورةٌ، منها: ما جاء في «الصَّحيحينِ» من حديثِ أبي هريرةَ t، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ حَجَّ للهِ، فلم يَرفُثْ، ولم يَفسُقْ؛ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

وجاء في «الصَّحيحينِ» أيضًا من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كَفَّارةٌ لِمَا بَينَهُما، والحَجُّ المَبرُورُ ليسَ له جَزاءٌ إلَّا الجَنَّةُ».

ثانيًا: من الأعمالِ الَّتي تُشرَعُ في العشرِ خاصَّةً الأُضحِيةُ: وهي مِن سُنَّةِ أبينا إبراهيمَ -عليه السَّلامُ-، كما قال U: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصَّافَّات: 107]، وقد أَمَرَنا نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ مِلَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

وأما حُكمُ الأضحيةِ فهي سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ على الصَّحيحِ.

ومن المسائل المهمة المتعلقة بالأضحية ما جاء عن أُمِّ سلمةَ -رضي اللهُ عنها- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:«إِذَا رَأَيْتُمْ هِلالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ»، وفي روايةٍ:«فَلا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ» [أخرجه مسلمٌ (1977)]، وفي هذا الحديثِ مسائلُ:

الأولى: فيه دليلٌ على أنَّه إذا دَخَلَتِ العشرُ، وأراد الإنسانُ أن يُضحِّيَ؛ فإنَّه لا يأخذُ من شعرِه ولا من أظفارِه ولا من بشرتِه شيئًا إلى أن يذبحَ أُضحِيتَه، فإنْ كان له أكثرُ مِن أضحيةٍ جاز له الأخذُ بعدَ ذبحِ الأولى.

المسألةُ الثَّانيةُ: الظَّاهرُ من قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فَلا يَأْخُذَنَّ» أنَّ النَّهيَ في هذا الحديثِ للتَّحريمِ؛ لأنَّه الأصلُ في النَّهيِ، فإنْ تَعمَّدَ وأَخَذ فعليه التَّوبةُ والاستغفارُ، ولا فِدْيةَ عليه إجماعًا، ولا يُؤثِّرُ ذلك على أُضحيتِه.

المسألةُ الثَّالثةُ: أنَّ هذا النَّهيَ الَّذي في الحديثِ يخصُّ صاحبَ الأضحيةِ؛ لقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:«وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ»، فلا يعمُّ الزَّوجةَ، ولا الأولادَ إذا أراد أن يُشرِكَهم معَه في الثَّوابِ.

المسألةُ الرَّابعةُ: مَن ضَحَّى عن غيرِه بوصيَّةٍ أو وكالةٍ؛ فلا يحرمُ عليه أخذُ شيءٍ من شعرِه أو ظفرِه أو بشرتِه؛ لأنَّ الأضحيةَ ليست له، وإنَّما الَّذي يُمسِكُ هو صاحبُ الأضحيةِ وليس الوَصِيُّ أو الوكيلُ؛ لأنَّ المُوكِّلَ وَكَّله على ذبحِ الأضحيةِ، ولم يُوكِّلْه على دينِه.

المسألةُ الخامسةُ: مَن أخذ من شعرِه المُباحِ أَخذُه، أو ظُفرِه أوَّلَ العشرِ لعدمِ إرادتِه الأضحيةَ ثُمَّ أرادها في أثناءِ العشرِ؛ أَمسَك من حينِ الإرادةِ، كمَن لم يكن عندَه أضحيةٌ ثُمَّ تَيسَّرت له في اليومِ الخامسِ من ذي الحجَّةِ -مثلًا- فإنَّه يُمسِكُ من ذلك الوقتِ.

المسألةُ السَّادسةُ: مَن احتاج إلى أخذِ شيءٍ من ذلك لتَضرُّرِه ببقائِه؛ كانكسارِ ظفرٍ، أو جرحٍ عليه شعرٌ يَتعيَّنُ أخذُه؛ فلا بأسَ؛ لأنَّ المُضحِّيَ ليس بأعظمَ من المُحرِمِ الَّذي أُبِيح له الحلقُ إذا كان مريضًا أو به أذًى من رأسِه، لكنَّ المُحرِمَ عليه الفديةُ، والمُضحِّي لا فديةَ عليه.

المسألةُ السَّابعةُ: لا يجوزُ للمرأةِ أن تُوكِّلَ أحدًا على أضحيتِها لتأخذَ من شعرِها -كما قد تفهمُه بعضُ النِّساءِ- لأنَّ الحكمَ مُتعلِّقٌ بالمُضحِّي نفسِه، سواءٌ وَكَّل غيرَه أم لا، وأمَّا الوكيلُ فلا يَتعلَّقُ به نهيٌ.

المسألةُ الثَّامنةُ: لا حرجَ في غسلِ الرَّأسِ للرَّجلِ والمرأةِ أيَّامَ العشرِ؛ لأنَّه إنَّما نهى عن الأخذِ، ولأنَّ المُحرِمَ أُذِن له أن يغسلَ رأسَه.

المسألةُ التَّاسعةُ: مَن أراد أن يُضحِّيَ ثُمَّ عزم على الحجِّ؛ فإنَّه لا يأخذُ من أشعارِه وأظفارِه عندَ الإحرامِ؛ لأنَّ هذا سُنَّةٌ عندَ الحاجةِ، فيُرجَّحُ جانبُ التَّركِ، لكن إن كان مُتمتِّعًا قصَّر من شعرِه إذا فرغ من عمرتِه، لأنَّ ذلك نُسُكٌ على أرجحِ الأقوالِ، وكذا إذا رمى جمرةَ العقبةِ يومَ العيدِ.

المسألةُ العاشرةُ: معَ غلاءِ الأضاحي، وحُبِّ المالِ، وشُحِّ النَّفسِ، فعلى المسلم أن يتَّقيَ ربَّه في اختيارِ أضحيتِه، ويتخيَّرَ أحسنَ الأضاحي، وَلْيَعلَمْ أنَّها قُرْبةٌ، وهذه القُربةُ لا يُتقرَّبُ بها لِمَلِكٍ ولا لمسؤولٍ، ولا لأعزِّ ضيفٍ وولدٍ، بل يُتقرَّبُ بها إلى ملكِ الملوكِ، وربِّ العالمينَ، الَّذي لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا، أَلَا فتَخيَّروا أجودَها وأطيبَها، وأحسنَها وأكملَها، ثُمَّ لتَطِبْ نُفُوسُكم بها، ولتحْتَسِبوا الأجرَ من اللهِ فيها؛ فـ{ لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحجّ: 37]، وتَذكَّرُوا وأنتم تَتقرَّبون إلى اللهِ باختيارِ أضاحيكم قولَ الحقِّ تبارَك وتعالَى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92].

ثالثًا: ومِن الأعمالِ الَّتي تُشرَعُ في العشرِ خاصَّةً: التَّكبيرُ، وهو من الأعمالِ والعباداتِ العظيمةِ، فعليكم بكثرةِ التَّكبيرِ للهِ عزَّ وجلَّ، ورفعِ الصَّوتِ بذلك، قال اللهُ تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحجّ: 28]، والأيَّامُ المعلوماتُ هي عشرُ ذي الحجَّةِ كما ذهب إلى ذلك جمهورُ أهلِ العلمِ.

قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-:{ وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}: أيَّامِ العَشْرِ، والأيَّامُ المَعدُوداتُ أيَّامُ التَّشْرِيقِ.

وكانَ ابنُ عُمَرَ وأبو هُرَيرةَ -رضي اللهُ عنهما- يَخرُجانِ إلى السُّوقِ في أيَّامِ العَشرِ يُكبِّرانِ، ويُكبِّرُ النَّاسُ بتكبيرِهما. [أخرجه البخاريُّ في «صحيحِه» مُعلَّقًا 1/329].

والتَّكبيرُ في هذه العشرِ على ضربينِ: تكبيرٌ مُطلَقٌ، وتكبيرٌ مُقيَّدٌ.

فأمَّا التَّكبيرُ المُطلَقُ؛ فيكونُ من أوَّلِ العشرِ إلى نهايةِ أيَّامِ التَّشريقِ، فلا يُقيَّدُ بوقتٍ ولا بحالٍ، ولهذا سُمِّي مُطلَقًا.

وأمَّا المُقيَّدُ؛ فيَبدأُ مِن بعدِ صلاةِ الفجرِ من يومِ عرفةَ إلى صلاةِ العصرِ من آخرِ أيَّامِ التَّشريقِ، وهو مُقيَّدٌ بأدبارِ الصَّلواتِ المكتوبةِ.

قال القاضي أبو يَعْلَى -رحمه اللهُ تعالى-:( التَّكبيرُ في الأضحى مُطلَقٌ ومُقيَّدٌ. فالمُقيَّدُ: عَقِيبَ الصَّلواتِ، والمُطلَقُ: في كُلِّ حالٍ، في الأسواقِ وفي كُلِّ زمانٍ) [«المُغنِي» 2/225].

أمَّا صِفاتُ التَّكبيرِ؛ فلم يَثبُتْ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صفةٌ مُعيَّنةٌ في التَّكبيرِ، وإنَّما ثَبَت عن صحابتِه -رضي اللهُ عنهم- في ذلك عِدَّةُ صِيَغٍ:

الصِّفةُ الأُولى:( اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ كبيرًا )، وهذه الصِّيغةُ ثابتةٌ عن سلمانَ الفارسيِّ رضي اللهُ عنه. [أَخرَجها البيهقيُّ في «السُّنَنِ الكُبرَى» 3/316، وصحَّح الحافظُ ابنُ حجرٍ سندَها كما في «الفتح» 2/462].

الصِّفةُ الثَّانيةُ:(اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ)، وهذه الصِّيغةُ ثابتةٌ عن ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه. [أَخرَجها ابنُ أبي شيبةَ في «مُصنَّفِه» (5633)].

الصِّفةُ الثَّالثةُ:(اللهُ أكبرُ كبيرًا، اللهُ أكبرُ كبيرًا، اللهُ أكبرُ وأَجَلُّ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ)، وهذه الصِّيغةُ ثابتةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-. [أخرجها ابنُ أبي شيبةَ في «مُصنَّفِه» (5646)].

والأمرَ في التَّكبيرِ واسعٌ، وذلك لعدمِ وجودِ نَصٍّ ثابتٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحدِّدُ صيغةً مُعيَّنةً، وما دام الأمرُ كذلك فلِلمُسلِمِ أن يُكبِّرَ بأيِّ صيغةٍ من صيغِ التَّكبيرِ حتَّى لو لم تكن فيما ذُكِر.

أمَّا القسمُ الثَّاني، وهي العباداتُ الَّتي تُشرَعُ في هذه الأيَّامِ وفي غيرِها، فمنها:

أوَّلًا: الصَّلاةُ: فيُستحَبُّ التَّبكيرُ إلى الفرائضِ، والإكثارُ من النَّوافلِ، فإنَّها من أفضلِ القُرُباتِ، جاء عن ثَوْبانَ رضي اللهُ عنه أنَّه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: «عليكَ بكثرةِ السُّجُودِ للهِ؛ فإِنَّكَ لا تَسجُدُ للهِ سَجْدةً إلَّا رَفَعَكَ اللهُ بها دَرَجةً، وحَطَّ عنكَ بها خطيئةً» [أخرجه مسلمٌ (488)]، وهذا عامٌّ في كُلِّ وقتٍ.

ثانيًا: الصِّيامُ: لدخولِه في عمومِ الأعمالِ الصَّالحةِ؛ فعن هُنَيدةَ بنِ خالدٍ، عن امرأتِه، عن بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصومُ تِسعَ ذي الحِجَّةِ، ويومَ عاشوراءَ، وثلاثةَ أيَّامٍ من كُلِّ شهرٍ) [أخرجه الإمامُ أحمدُ 5/271، وأبو داودَ (2437)، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيحِ أبي داودَ» (2129)].

قال الإمامُ النَّوويُّ -رحمه اللهُ تعالى- عن صومِ أيَّامِ العشرِ: (إنَّه مُستحَبٌّ استحبابًا شديدًا) [«شرح صحيح مسلم» 8/71].

ومِن آكَدِ الصِّيامِ: صيامُ يومِ عرفةَ، فقد ثبت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال عن صومِ يومِ عرفةَ: «... صِيامُ يومِ عَرَفةَ أَحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السَّنةَ الَّتي قَبْلَهُ، والسَّنةَ الَّتِي بَعْدَهُ» [أخرجه مسلمٌ (1162)].

لكنْ مَن كان في عَرَفةَ - أي حاجًّا - فإنَّه لا يُستحَبُّ له الصِّيامُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقف بعرفةَ مُفطِرًا.

ومِن الأعمالِ الَّتي ينبغي الإكثارُ منها في هذه العشرِ: كثرةُ ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما مِن أيَّامٍ أعظمَ عندَ اللهِ ولا أَحَبَّ إليه مِن العملِ فِيهِنَّ مِن هذه الأيَّامِ العَشْرِ؛ فأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ» [أخرجه الإمامُ أحمدُ 2/131، وأبو داودَ (2437)، وحسَّنه الألبانيُّ في «الإرواءِ» 3/398].

ومن الأعمالِ الفاضلةِ في هذه العشرِ: كثرةُ قراءةِ القرآنِ الكريمِ، وكذا العمرةُ لمَن يُطِيقُ، وكذا الصَّدقةُ والإحسانُ إلى الفقراءِ ... إلى غيرِ ذلك من العباداتِ والقرباتِ.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، وسلَّم.

جديد المقالات

.

تصميم وتطوير كنون