۩ البحث ۩



البحث في

۩ إحصائية الزوار ۩

الاحصائيات
لهذا اليوم : 78
بالامس : 1225
لهذا الأسبوع : 5699
لهذا الشهر : 29936
لهذه السنة : 125828
منذ البدء : 3740106
تاريخ بدء الإحصائيات : 3-12-2012

۩ التواجد الآن ۩

يتصفح الموقع حالياً  33
تفاصيل المتواجدون

:: هل تعبيرِ الرُّؤَى علمٌ يُكتَسَبُ، أم فِراسةٌ، أم إلهامٌ مِن اللهِ جلَّ جلالُه؟ ::

المسألة

:: هل تعبيرِ الرُّؤَى علمٌ يُكتَسَبُ، أم فِراسةٌ، أم إلهامٌ مِن اللهِ جلَّ جلالُه؟ ::

 د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبعانَ

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى رسولِه الأمينِ، وعلَى آلِه وصَحْبِه أجمعينَ.

أمَّا بعدُ؛ فهل تعبيرِ الرُّؤَى علمٌ يُكتَسَبُ، أم فِراسةٌ، أم إلهامٌ مِن اللهِ جلَّ جلالُه؟

هذه مِن المسائِلِ التي تحتاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرٍ؛ وذلكَ لأنَّ الرُّؤَى وُجِدَت مع الإنسانِ البشرِيِّ منذُ أنْ خَلَقَه اللهُ عزَّ وجلَّ، ممَّا جَعَل الاهتِمامِ بها حاضِرًا عندَ كثيرٍ مِن النَّاسِ، فتَتَابَعَ اهتِمامُهُم بها منذُ العصورِ القديمةِ إلى العصورِ الحديثةِ، ممَّا أَورَثَ الخلافَ فيها؛ لاختلافِ تعامُلِ النَّاسِ وتعاطِيهِم معَها مِن خلالِ معتَقَداتِهم وفُهُومِهم؛ فمِنهم مَن يَرَى أنَّها مَحْضُ فِراسةٍ وذكاءٍ، ومِنهم مَن يَرَى أنَّها نوعٌ مِن الإلهامِ، يُلقِي اللهُ تأويلَها في قلبِ العبدِ، ومِنهم مَن يَرَى أنَّها عِلمٌ له أصولُهُ وقواعِدُه، فهو يُحَصَّلُ ويُكتَسَبُ، ويُتَعَلَّمُ ويُدْرَسُ.

والَّذي يظهَرُ بعدَ التَّأمُّلِ والنَّظرِ، والبحثِ والتَّحرِّي: أنَّ النَّاسَ في تأويلِ الرُّؤَى وتعبيرِهَا لا يخرُجُونَ عن خمسِ طبقاتٍ:

الطَّبقةُ الأولَى: الأنبياءُ والرُّسلُ، وهم مَن أعطاهُمُ اللهُ هذا العلمَ، وجَعَلَه جزءًا مِن نُبُوَّتِهم، فقد أُوتِيَهُ نبيُّ اللهِ إبراهيمُ، ويعقوبُ، ويوسفُ، ودانيالُ، ومحمَّدٌ، عليهِمْ جميعًا الصَّلاةُ والسَّلامُ.

الطَّبقةُ الثَّانيةُ: المُلْهَمونَ، وهم صادِقُو الظَّنِّ، الَّذينَ يُلقَى في نُفُوسِهِم الشَّيءُ فيُخبَرونَ بهِ، وقدِ اختَصَّهم اللهُ بهذه الخَصِيصةِ، وامتَنَّ عليهِم بهذه المِنَّةِ بمَحْضِ فضلِهِ وكرمِهِ علَيهِم؛ وهذه العطيَّةُ لا تكونُ إلَّا لأولياءِ اللهِ الصَّالحينَ، ممَّن كانَ مستقيمَ الظَّاهِرِ والباطِنِ على شرعِ اللهِ تعالى([1])، فهي وحيٌ باطنٌ خفِيٌّ، أدرَكُوا بهِ جُزْءًا مِن النُّبوَّةِ.

ويُحرَمُ منها الفاسِقُ العَاصِي؛ لاستيلاءِ وحيِ الشَّيطانِ عليهِ، فهناك إيحاءاتٌ شيطانيَّةٌ تحصُلُ لأولياءِ الشَّيطانِ مِن المُبتدِعَةِ والمُنْحرِفينَ عن شرعِ اللهِ تعالى؛ قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ»([2]). وقالَ أيضًا: «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ»([3]).

ففي هذينِ الحديثَيْنِ بيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الأممَ السَّابقةَ كانَ فيهِمْ مُحَدَّثونَ؛ أي مُلْهَمونَ([4])، وإنْ يكُنْ في هذه الأُمَّةِ فسيكونُ منهم عمرُ بنُ الخطابِ رَضِيَ اللهُ عنه، وهذه الأمَّةُ قد ثَبَتَ أنَّ فيها مُحدَّثينَ مُلهَمينَ، فيكونُ معنَى الحديثِ: أنَّ عمرَ -رضي اللهُ عنه- منهم، وهو كذلكَ.

وهذه الطَّبقةُ تُعتَبَرُ بالنِّسبةِ لغيرِ الأنبياءِ أعلَى طبقاتِ المُعبِّرينَ؛ لِمَا حَصَلوا عليهِ مِن إكرامِ اللهِ لهم، كبعضِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ومِن أشهرِهِم: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وعبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، وعبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ، وأبو ذرٍّ الغِفَاريُّ، وأنسُ بنُ مالكٍ، وحُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ، وعائشةُ أمُّ المؤمنينَ، وأسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم.

ومِن التَّابعينَ: سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، والحسنُ البصريُّ، وعطاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، والشَّعْبيُّ، والزُّهريُّ، وإبراهيمُ النَّخَعِيُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وطاوسٌ، وثابِتٌ البُنَانيُّ، وغيرُهم مِن غيرِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ.

الطَّبقة الثَّالثةُ: المتفرِّسونَ([5]) وحادُّو الذَّكاءِ، وهم مَن يَتمَتَّعونَ بالتَّعرفِ على بواطِنِ الأُمورِ مِن ظواهِرِها، فيتعرَّفونَ على أخلاقِ وطبائِعِ النَّاسِ الباطنةِ مِن خلالِ النَّظرِ إلى أحوالِهِم الظَّاهرةِ، كالألوانِ والأشكالِ والأعضاءِ، وبالتَّالي يستطِيعَ الفردُ منهم الوصولَ إلى سُلُوكيَّاتِ النَّاسِ ورَغَباتِهِم ورُدودِ أفعالِهِم ونظرتِهم للأُمورِ، وكلِّ ما يَصدُرُ عنهُم مِن تصرُّفاتٍ إيجابيَّةٍ أو سَلبيَّةٍ.

فهذه الموهِبةُ قائمةٌ على التَّحليلِ الذِّهنِيِّ الدَّقيقِ لأنماطِ شخصيَّةِ الإنسانِ، ومعرفةِ صفاتِهِ ومميِّزاتِهِ، بالإضافةِ إلى نقاطِ القوَّةِ والضَّعفِ لدَيْهِ، فتكونُ مِن بابِ الاستدلالِ بالمقدِّماتِ على النَّتائِجِ.

وقد أشارَ اللهُ جلَّ جلاله في كتابِهِ الكريمِ إلى شيءٍ مِن ذلكَ، فقالَ سبحانَه وتعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]. أي: تعرِفُهم بعلامَتِهِم وآثارِهِم، وهذه الآيةُ خطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الفقراءِ الَّذينَ أُحصِروا في سبيلِ اللهِ، أنَّكَ ستعرِفُهم بسِيمَا وآثارِ الفقرِ عليهِم، سواءٌ على وُجُوهِهِم ممَّا يظهَرُ مِن الجَهْدِ والتَّعبِ، أو على ظواهِرِهم ممَّا يكونُ مِن حالِ هيئةِ ثيابِهِم الرَّثَّةِ ونحوِها، فهنا استدلالٌ بالظَّاهِرِ على الحالِ الدَّاخليِّ مِن الجوعِ، وشِدَّةِ العَوَزِ.

وقالَ سبحانَه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. قيلَ: للمتفرِّسينَ. كمَا نُقِل عن مجاهد، وقيلَ: للمُعتَبِرينَ. كما نُقِلَ عن قتادةَ، وقيلَ: للنَّاظرينَ. كما نُقِلَ عن ابنِ عباسٍ والضَّحَّاكِ([6]).

ومِن هنا يَتبيَّنُ أمرُ الفِرَاسةِ، وأنَّها وصفٌ يَقَعُ لبعضِ النَّاسِ دونَ بعضٍ.

وهذه الطَّبقةُ ليسَتْ خاصَّةً بالمسلمينَ، بل عامَّةٌ فيهِم وفي غيرِهِم، فكلُّ مَن أُوتِيَ فِراسةً وحِدَّةَ ذكاءٍ فَقَدْ يُعَبِّرُ الرُّؤَى؛ لأنَّ الرُّؤَى قائِمةٌ على رُموزٍ ذاتِ دَلالاتٍ وتراكيبَ ومعانٍ تُعرَفُ بتأمُّلٍ في معانِيهَا، وربطِ بعضِهَا ببعضٍ، فيَستنتِجُ المُعبِّرُ منها وجهَ التَّأويلِ؛ ولذلكَ نجِدُ مِن عامَّةِ النَّاسِ مِمَّن أُوتِيَ حِدَّةَ ذكاءٍ أو فِرَاسةً مَنْ يُعبِّرُ بعضَ الرُّؤَى تعبيرًا صحيحًا.

وممَّا يُذكَرُ هنا ما عُرِفَ عن فلاسفةِ اليونانِ مِن براعتِهِم في هذا العلمِ، وتفَنُّنِهِم فيه، كأفلاطونَ، ومهراريسَ، وأَرِسْطُو أو أَرِسْطُوطَالِيسَ، وبَطْلَيْموسَ، وجالينُوسَ، وأبقراطَ، ويعقوبَ بنِ إسحاقَ الكِنْديِّ، وأبي زيدٍ البَلْخيِّ، وغيرُهُم كثيرٌ، بل قد صنَّفَ بعضُهُم فيهِ مصنَّفاتٍ، وممَّن صنَّفَ فيهِ: أرطاميدورسُ الإفسوسيُّ (ت: 260 هـ)([7])، وعنوانُ كتابِهِ: «كتابُ تعبيرِ الرُّؤيا»([8])، وقد تُرجِمَ للعربيةِ، ترجَمَه حُنَيْنُ بنُ إسحاقَ (ت:260 هـ) بسامَرَّاءَ([9])، وحقَّقه د. عبد المُنعمِ الحفنيُّ، وكذلكَ حقَّقه أحمدُ بنُ فريدٍ المزيديُّ بعنوانِ: «تعبيرُ المناماتِ».

وفي كتابِ:«طبقاتُ المعبرينَ» للخَلَّال ذَكَرَ: سبعةَ آلافٍ معبرٍ وخَمْسَمائةٍ مِن شتَّى الدِّياناتِ والأَعْراقِ، والمُعتَقَداتِ، والأفكارِ، وقسَّمَ كتابَهُ إلى خمسَ عَشْرةَ طبقة.

والحاصلُ مِن هذا: أنَّ هناكَ أناسًا كثيرينَ يتمتَّعونَ بمواهِبَ مِن حِدَّةِ الذَّكاءِ، وقوةِ الفِراسةِ، وحُسنِ الرَّبطِ والاستِنْباطِ تؤهِّلُهُم لتعبيرِ الرُّؤَى والمناماتِ، وهذا واقِعٌ لا يُنكَرُ.

الطَّبقةُ الرَّابعةُ: المكتَسِبُونَ، وهم مَن اجتَهَدوا في اكتِسَابِ هذا العلمِ، ممَّا تحَصَّلَ لهم مِن العلومِ الشَّرعيَّةِ، واللُّغةِ، والأدبِ، وعلمِ الاجتِماعِ ونحوِها، مع ما يمتلِكُونَ مِن الحرصِ، وكثرةِ البحثِ والنَّظرِ، والقراءةِ في هذا العلمِ وكتبِهِ المصنَّفةِ فيهِ، مع إدمانِهِم على الاطِّلاعِ على تعابيرِ السَّلفِ وأساليبِ المُعبِّرينَ، والجلوسِ مع أهلِ الحكمةِ والعلماءِ، حتَّى تَحَصَّل لهم نوعُ مَلَكَةٍ خاصَّةٍ تُعِينُهم في كثيرٍ مِن الأحايينِ على معرفةِ المرادِ بالرُّؤيا.

وهذه الطَّبقةُ تعتَمِدُ في تفسيرِهَا على التَّعليلِ، ويكونُ تعليلًا منطقيًّا متماشِيًا مع القواعِدِ العامَّةِ لهذا العلمِ، وهذه خاصَّةً هي المقصودةُ بكلامِ كثيرٍ مِن أهلِ العلمِ ممَّن تحدَّثوا عن علمِ التَّأويلِ المُكتَسَبِ.

يقولُ ابنُ قُتَيْبةَ الدِّينَوريُّ -رَحِمَه اللهُ تعالى-: (إنَّ كلَّ عالِمٍ بفَنٍّ مِن العلومِ يَستَغنِي بآلةِ ذلكَ العلمِ لعِلمِهِ، خَلَا عابرِ الرُّؤيا، فإنَّه يحتاجُ إلى أنْ يكونَ عالِمًا بكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وبحديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليعتَبِرَهما في التَّأويلِ، وبأمثالِ العربِ، والأبياتِ النَّادرةِ، واشتِقاقِ اللُّغةِ، والألفاظِ المُبتَذَلةِ عندَ العوامِّ، وأنْ يكونَ مع ذلكَ أديبًا، لطيفًا، ذكيًّا، عارفًا بهيئاتِ النَّاسِ، وشَمَائلِهِم، وأقدارِهِم، وأحوالِهِم، عالِمًا بالقياسِ، حافِظًا للأُصولِ)([10]).

إنَّ هذِه الطَّبقةَ تَرَى أنَّ علمَ تأويلِ الرُّؤيا كغيرِهِ مِن العلومِ، تُعرَفُ أصولُهُ وأحكامُهُ، وقواعدُه وضوابِطُه، وحدودُه وآدابُه، ثم بعدَ ذلكَ يترقَّى الإنسانُ فيهِ، حتَّى يبلُغَ فيهِ مَبْلَغَه، ومُنْتَهَاه.

فعلمُ التَّأويلِ عندَهم علمٌ شرعيٌّ له قواعِدُه المُستَنبَطَةُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، مع ما يَستَنْبِطُه الفهمُ الصَّحيحُ القائِمُ على أصولٍ صحيحةٍ، ومعانٍ دقيقةٍ، لا تخالِفُ الوَحْيينِ.

والنَّاسُ فيهِ يتفاوَتُونَ كتفاوُتِهِم في أيِّ علمٍ مِن العلومِ، وتفاوتُهُم هذا له أسبابٌ كثيرةٌ، لعَلَّ مِن أهمِّها ما يأتِي:

الأولُ: الطَّريقةُ في تعلُّمِهِ واكتسابِهِ، فقد تكونُ طريقةُ التَّعلُّمِ غيرَ صحيحةٍ أو غيرَ سديدةٍ، فتأتِي بنتائِجَ عكسيَّةٍ.

الثَّاني: عدمُ قابليَّةِ المَحَلِّ، فليسَ كلُّ إنسانٍ هو مَحَلٌّ للتَّعبيرِ، فالمعبرُ ينبغِي أنْ يتَّصِفَ بصفاتٍ تؤهِّلُه لهذا العلمِ، مِن الحرصِ والذَّكاءِ، وحُسنِ الفَهمِ، وسرعةِ البديهةِ، والإلمامِ بأصولِ العلومِ، ودَلالاتِ الألفاظِ، مع حُسنِ قصدٍ وصفاءِ روحٍ، هذا بالإجمالٍ، ومثلُ مَن هذه صفاتُهُ فإنَّه محلٌّ للتَّأويلِ، فعندَ ممارَسَتِه له، ودُرْبتِهِ عليهِ، تُصبِحُ له مهارةٌ فائِقةٌ ممَّا يبهرُ سامِعِيهِ، ويُعجِبُ سائِلِيهِ، وذلكَ مِن حسنِ تأويلِهِ، وقوةِ استِنْباطِهِ، فيجعَلُ بعضُ مَن يجهَلُ علمَ التَّأويلِ يظُنُّ أنَّه ضَرْبٌ مِن ضروبِ الكهانةِ والعرافةِ، وهو ليسَ كذلكَ.

فإذا كانَ الشَّخصُ غيرَ مؤهَّلٍ لذلكَ، فإنَّه وإنْ دَخَلَ في هذا العلمِ لنْ يكونَ مِن أهلِهِ ألبتَّةَ، إلَّا أنْ يشاءَ اللهُ شيئًا، فنقولُ له كما قالَ القائِلُ:

إذا لم تستَطِعْ شيئًا فَدَعْهُ ... وجاوِزْهُ إلى ما تستَطِيعُ

قالَ أبو الوليدِ الباجِي -رَحِمَه اللهُ تعالى-: (ولا يعبرُ الرُّؤيا إلَّا مَن يُحسِنُها، وأمَّا مَن لا يعلَمُ ذلكَ ولا يُحسِنُها فلْيَترُكْ)([11]).

الثَّالثُ: استِعجالُ التَّصدُّرِ، وهذا آفةُ بعضِ طلابِ العلمِ، وسببُ استِعْجالِهِم استطالةُ الطَّريقِ، ونَفَادُ الصَّبرِ، وحُبُّ التَّصدُّرِ، وهذه مَزَلَّةُ قدمٍ، تجلبُ المُعاناةَ، وتُفسِدُ على العبدِ دينَهُ، وتؤدِّي به -في الغالِبِ- إلى الانقِطاعِ التَّامِّ.

ومِن خلالِ التَّأملِ في الذينَ يَلِجُونَ بابَ التَّأويلِ المُكتَسَبِ، نَجِدُ أنَّهم لا يخرُجونَ عن ثلاثةِ أصنافٍ:

الأوَّلُ: المُبتدِئُ فيه الَّذي لم يُتِمَّه، فدَخَلَ في هذا العلمِ وتذوَّقَه، وتعرَّفَ على بعضِ قواعِدِه وأصولِهِ، ثم تكاسِلَ عنه وهَجَرَه، فهذا تجِدُ أنَّ عندَه شيئًا مِن هذا العلمِ لا يُرَقِّيه ولا يُميِّزُه، فيبقَى في عدادِ مَن يحمِلُونَ الثَّقافةَ العامَّةَ دونَ المتخصِّصينَ، والخطرُ مِن هذا وأضرابِهِ لو تقَحَّمَ بابَ التَّأويلِ، وهو لم يتأهَّلْ له، ولم ترسَخْ قدمُهُ فيهِ، فإنَّه للخطأِ والزَّللِ واقِعٌ، وللقولِ بغيرِ علمٍ مسارِعٌ؛ وما أكثَرَهم اليومَ!

الثَّاني: المتوسِّطُ فيهِ، فعندَه أكثرُ مِن سابقِهِ، لكنَّه انقَطَع فلم يُتِمَّ التعلُّمَ والمراجعةَ والمذاكرةَ، فهذا لم يُدرِكْ حقيقةَ التَّأويلِ ولم يَبرَعْ فيهِ، فإنْ مارَسَ التَّأويلَ فهو مَحَلٌّ للخطأِ والزَّللِ، والقولِ فيهِ بغيرِ علمٍ.

الثَّالثُ: المنتَهِي فيهِ، وهو الَّذي أَلَمَّ بأُصُولِهِ وأحكامِهِ، وعَرَفَ قواعِدَه وضوابِطَه، وحدودَهُ وآدابَهُ، ومع ذا دائِمُ المذاكرةِ والمراجعةِ، وكثيرُ التَّأملِ مع المباحثةِ، فهذا صوابُهُ أكثرُ، وتعبيرُهُ أدقُّ، وذِمَّتُه أسلَمُ مِن الحَرَجِ.

الطَّبقةُ الخامسةُ: المتعالِمُونَ: وهم مَن نَصَّبوا أنفُسَهم لهذا العلمِ، معتَمِدينَ على (القواميسِ) التي وَضَعَها أهلُ العلمِ قديمًا وحديثًا، فهم لا يعرِفُونَ مِن هذا العلمِ إلَّا ما قالَهُ صاحبُ الكتابِ مِن دَلالةِ رؤيةِ الشيءِ عليهِ، غيرَ عالِمِينَ بقواعِدِ الرُّؤَى، وضوابِطِها، وأحوالِهَا، وآدابِهَا، وأحوالِ مَن رآها، فهؤلاءِ يَسُودُ تعبيرَهُم الخَبْطُ، والضَّلالُ والإضلالُ؛ ممَّا نَتَجَ عنه مِن المَفَاسدِ ما لا يُحصَى.

إنَّ هذه الجرأةَ لا تَصدُرُ إلَّا مِن ضعافِ الإيمانِ، قليلِي التَّقوى، قليلِي العلمِ، ولَيْتَهم تأسَّوْا بحاشيةِ الملكِ إذْ قالُوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44]. فسَكَتُوا ليَسْلَمُوا ويَسلَمَ النَّاسُ مِنهم.

فالواجبُ على هؤلاءِ أنْ يتعَلَّموا هذا العلمَ بأُصولِهِ، ويتَّبِعُوا فيهِ سِيَرَ العلماءِ العاملينَ، ولا يُنَصِّبوا أنفسَهُم مُفتِينَ في الرُّؤَى، يتكلَّمونَ فيها بتخمينٍ وظُنونٍ، فأينَ هم مِن قولِ اللهِ جلَّ جلاله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]؟



([1])حصولُ هذه الإِلْهاماتِ الإلهيةِ لا يَعْني بالضَّرورةِ أنَّ صاحِبَها أفضلُ مِن غيرِهِ، فقَدْ تَحْصُلُ للمَفْضولِ أكثَرَ مِن الفَاضِلِ.

([2]) أخرَجَه البخاريُّ (3486)، ومسلمٌ (2398)، عن عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها.

([3]) أخرَجَه البخاريُّ (3486)، عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.

([4]) قالَ ابنُ حجرٍ -رَحِمَه اللهُ تعالى-: (قولُه: مُحَدَّثونَ. بفتحِ الدَّالِ، جمعُ مُحَدَّثٍ، واختُلِفَ في تأويلِهِ؛ فقيلَ: مُلْهَمٌ. قالَه الأكثَرُ، قالوا: المُحدَّثُ بالفتحِ هو الرَّجلُ الصَّادقُ الظَّنِّ، وهو مَن أُلْقِيَ في رُوعِهِ شيءٌ مِن قِبَلِ المَلَأِ الأعلَى، فيكونُ كالذي حدَّثَه غيرُه به. وبهذا جَزَمَ أبو أحمدَ العَسْكريُّ. وقيلَ: مَن يَجرِي الصَّوابُ على لسانِهِ مِن غيرِ قصدٍ. وقيلَ: مُكَلَّمٌ. أي: تكلِّمُه الملائكةُ بغيرِ نُبوَّةٍ. وهذا وَرَدَ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ مَرْفوعًا، ولفظُهُ: قيلَ: يا رسولَ اللهِ، وكيفَ يُحَدَّثُ؟ قالَ: «تتَكَلَّمُ المَلائِكَةُ عَلَى لسَانِه». رُوِّيناهُ في «فوائِدِ الجَوْهَرِيِّ». وحَكَاه القَابِسِيُّ وآخَرونَ. ويؤيِّدُه ما ثَبَتَ في الرِّوايةِ المُعلَّقةِ، ويُحتَمَلُ رَدُّه إلى المَعنَى الأوَّلِ، أي: تكلمُهُ في نفسِهِ، وإنْ لم يَرَ مكلِّمًا في الحقيقةِ، فيرجِعُ إلى الإلهامِ) «فتحُ البارِي» (7/50).

([5]) وقد ذَكَرَ ابنُ القيِّمِ -رَحِمَه اللهُ تعالى- في «الطُّرقِ الحكميَّةِ» (ص 96 - 167) مِن أنواعِ الفِراسةِ وأفرادِهَا أشياءَ عَجيبةً.

([6]) «جامِعُ البَيَانِ في تأويلِ آيِ القرآنِ» لابنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ (17/120).

([7]) طبيبٌ وجُغْرافيٌّ وفَيْلسوفٌ ورَحَّالةٌ ولُغَويٌّ وعالِمُ نفسٍ يونانيٌّ مِن مدينةِ (أفاسيسَ)، كانَ له اطِّلاعٌ واسِعٌ على الأساطِيرِ والحكاياتِ الشَّعبيَّةِ والعاداتِ والأعرافِ الاجتِمَاعيَّةِ. وكانَ كتابُهُ «تعبيرُ الرُّؤيا» علامةً على هذه الثَّقافةِ المَوْسوعيَّةِ.

([8]) اتَّبَعَ في هذا الكتابِ نَهْجًا يَبْدُو أنَّه لم يُسبَقْ إليهِ في المُؤَلَّفاتِ عن الأحلامِ، فقَدْ قَسَّمَ الكتابَ إلى ثلاثِ مقالاتٍ أو فُصولٍ، وكلَّ مقالةٍ أو فصلٍ إلى أبوابٍ، كأنْ يقولَ: بابٌ في الموتِ. أو: بابٌ في الزَّواجِ. أو: في زوجةِ الأَبِ. أو: زوجِ الأمِّ. ثمَّ يتناوَلَ في كلِّ بابٍ معنَى الحُلُمِ بأيٍّ مِن هذِه المَوْضوعاتِ تَبَعًا لسِنِّ الحالِمِ وجنسِهِ وطبقتِهِ وحالتِهِ الصِّحيةِ والنَّفسيَّةِ والمِزَاجيَّةِ. وهذه الطَّريقةُ لم يَسبِقْه إليها أحدٌ.

([9]) أبو زَيْدِ بنُ إسحاقَ العِبادِيُّ، عالِمٌ ومترجمٌ، وعالِمُ لغاتٍ، وطبيبٌ نَصْرانيٌّ نسْطُورِيٌّ. أصلُه مِن الحِيرَةِ.

([10]) «كتابُ تعبيرِ الرُّؤيا» (ص 26).

([11]) «المُنْتَقَى شرحُ المُوَطَّأِ» (7/278).

روابط ذات صلة

المسألة السابق
المسائل المتشابهة المسألة التالي

.

تصميم وتطوير كنون