۩ القائمة الرئيسية ۩
۩ فوائد علمية ۩
۩ القصص الدعوية ۩
۩ البحث ۩
۩ الاستشارات ۩
۩ إحصائية الزوار ۩
۩ التواجد الآن ۩
يتصفح الموقع حالياً 71
تفاصيل المتواجدون
:: فضلُ الصَّبرِ على المصيبةِ ::
المقال
:: فضلُ الصَّبرِ على المصيبةِ ::
د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
ومنه المعونةُ والسَّدادُ
فضلُ الصَّبرِ على المصيبةِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِه مُحمَّدٍ، وعلى آلِه، وصَحْبِه أجمعينَ.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى جعل الموتَ حتمًا على جميعِ العبادِ من الإنسِ والجنِّ، فلا مفرَّ لأحدٍ ولا أمانَ {كلُّ مَن عليها فانٍ}! ساوَى فيه بين الحُرِّ والعبدِ، والصَّغيرِ والكبيرِ، والذَّكَرِ والأنثى، والغنيِّ والفقيرِ، وكلُّ ذلك بتقديرِ العزيزِ العليمِ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
فالكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعَمِل لِمَا بعدَ الموتِ، والحازمُ مَن بادَر بالعملِ قبلَ حلولِ الفَوْتِ, والمسلمُ مَن استَسلَم للقضاءِ والقدرِ, والمؤمنُ مَن تَيقَّن بصبرِه الثَّوابَ على المصيبةِ والضَّرَرِ([1]).
وأيُّ مصيبةٍ أعظمُ بعدَ الدِّينِ من مصيبةِ الموتِ([2])! ملأ اللهُ تعالى قلوبَنا صبرًا ورِفْقًا وتسليمًا.
أخي المسلمَ: كربُ الزَّمانِ، وفقدُ الأحبَّةِ = خَطْبٌ مُؤلِمٌ, وحَدَثٌ مُفجِعٌ, وأمرٌ مَهُولٌ مُزعِجٌ, بل هو من أثقلِ الأنكادِ الَّتي تَمُرُّ على الإنسانِ نارٌ تَستَعِرُ, وحُرْقةٌ تَضطَرِمُ، تحترقُ به الكبدُ، ويُفَتُّ به العَضُدُ؛ إذْ هو الرَّيحانةُ للفؤادِ، والزِّينةُ بينَ العبادِ, لكنْ معَ هذا نقولُ:
فَلَرُبَّ أمرٍ مُحزِنٍ ... لكَ في عواقبِه الرِّضا
وَلَرُبَّما اتَّسَع المَضِيقُ ... ورُبَّما ضاق الفَضَا
كم مسرورٍ بنعمةٍ هي داؤُه, ومحرومٍ من دواءٍ حرمانُه هو شفاؤُه! كم من خيرٍ منشورٍ وشرٍّ مستورٍ, ورُبَّ محبوبٍ في مكروهٍ, ومكروهٍ في محبوبٍ؛ قال تعالى: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
(لو استَخبَر المُنصِفُ العقلَ والنَّقلَ لأَخْبراه أنَّ الدُّنيا دارُ مصائبَ وشرورٍ, ليس فيها لذَّةٌ على الحقيقةِ إلَّا وهي مَشُوبةٌ بكَدَرٍ, فما يُظَنُّ في الدُّنيا أنَّه شرابٌ فهو سرابٌ, وعمارتُها -وإنْ حَسُنتْ صورتُها- خرابٌ, والعَجَبُ كلُّ العجبِ في مَن يَدُه في سَلَّةِ الأفاعي كيف يُنكِرُ اللَّدْغَ واللَّسْعَ؟!)([3]) وأعجبُ منه مَن يطلبُ ممَّن طُبِع على الضُّرِّ النَّفعَ!
طُبِعتْ على كَدَرٍ، وأنت تُرِيدُها ... صَفْوًا من الأقذاءِ والأكدارِ!
هل رأيتَ، بل هل سمعتَ بإنسانٍ على وجهِ هذه الأرضِ لم يُصَبْ بمصيبةٍ دقَّتْ أو جَلَّتْ؟
الجوابُ معلومٌ: لا، وألفُ لا. ولولا مصائبُ الدُّنيا -معَ الاحتسابِ- لَوَرَدْنا القيامةَ مفاليسَ، كما قال بعضُ السَّلفِ.
ثمانيةٌ لا بدَّ منها على الفتى ... ولا بدَّ أن تَجرِي عليه الثَّمانِيَهْ
سرورٌ، وهَمٌّ, واجتماعٌ، وفُرْقةٌ ... وعُسْرٌ، ويُسْرٌ, ثُمَّ سُقْمٌ، وعافِيَهْ
(أخي، إنَّ ممَّا يكشفُ الكربَ عندَ فقدِ الأَحِبَّةِ: التَّأمُّلَ والتَّملِّيَ والتَّدبُّرَ والنَّظرَ في كتابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- وسُنَّةِ نبيِّه مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ ففيهما ما تَقَرُّ به الأَعيُنُ, وتَسكُنُ به القلوبُ، وتَطمئِنُّ له -تبعًا لذلك- الجوارحُ، ممَّا منحه اللهُ ويمنحُه لِمَن صبَر ورَضِيَ واحتسَب من الثَّوابِ العظيمِ والأجرِ الجزيلِ, فلو قارَن المكروبُ ما أُخِذ منه بما أُعطِيَ؛ [فإنَّه] لا شكَّ سيجدُ [أنَّ] ما أُعطِيَ من الأجرِ والثَّوابِ أعظمُ من فواتِ تلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعَفةٍ، ولو شاء اللهُ لجعلها أعظمَ وأكبرَ وأَجَلَّ، وكلُّ ذلك عندَه بحكمةٍ، وكلُّ شيءٍ عندَه بمقدارٍ)([4]).
فَلْنَقِفْ معَ آياتٍ من كتابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وفي ثاني سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، وكفى بها واعظًا، وكفى بها مُسلِّيةًً، وكفى بها كاشفةًً للكروبِ، ومُذْهِبةً للهمومِ.
(قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ _ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ _ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157].
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} علاجٌ من اللهِ -عزَّ وجلَّ- لكلِّ مَن أُصِيبَ بمصيبةٍ دقيقةٍ أو جليلةٍ, بل إنَّه أبلغُ علاجٍ وأنفعُه للعبدِ في آجِلِه وعاجِلِه، فإذا ما تَحقَّق العبدُ أنَّ نفسَه ومالَه وأهلَه وولدَه مِلْكٌ للهِ -عزَّ وجلَّ- قد جعَلها عندَه عاريَّةً؛ فإذا أخَذَها منه فهو كالمُعِيرِ يأخذُ عاريَّتَه من المستعيرِ؛ فهل في ذلك ضَيْرٌ؟ لا، والَّذي رفَع السَّماءَ بلا عَمَدٍ)([5]).
ثُمَّ إنَّ ما يُؤخَذُ منكَ -أيُّها العبدُ المُصابُ المُبتلَى- محفوفٌ بعَدَمينِ: عَدَمٍ قبلَه فلم يكنْ شيئًا في يومٍ من الأيَّامِ, وعَدَمٍ بعدَه فكان ثُمَّ لم يكنْ, فمِلْكُكَ له متعةٌ مُستودَعةٌ في زمنٍ يسيرٍ، ثُمَّ تعودُ إلى مُوجِدِها ومُعِيرِها الحقيقيِّ سبحانه وبحمدِه؛ { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام:62].
فمصيرُ العبدِ ومَرجِعُه إلى اللهِ مَوْلاه الحقِّ, لا بدَّ أن يُخلِّفَ الدُّنيا وراءَ ظهرِه يومًا ما, ويأتيَ ربَّه فردًا كما خلَقَه أوَّلَ مرَّةٍ بلا أهلٍ ولا عشيرةٍ ولا مالٍ، ولكنْ بالحسناتِ والسَّيِّئاتِ، نسألُه حسنَ المآلِ، هل عَلِمتَ هذا أخي المُصابَ المكروبَ؟
فمَن امتثَل أمرَ اللهِ تعالى بالصَّبرِ على البلاءِ؛ كانت مثوبةُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- له:{أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157].
عن أُمِّ سلمةَ -رضي اللهُ عنها- قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقولُ: «ما مِن عبدٍ تُصِيبُه مصيبةٌ، فيقولُ: (إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْني في مُصِيبتِي، وأَخلِفْ لي خيرًا منها)؛ إلَّا أَجَرَه اللهُ في مصيبتِه، وأخلَف له خيرًا منها»، قالت: فلمَّا تُوُفِّي أبو سلمةَ؛ قلتُ: ومَن خيرٌ من أبي سلمةَ صاحبِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؟! ثُمَّ عزَم اللهُ عليَّ فقلتُها؛ فما الخَلَفُ؟ قالت: فتَزوَّجتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، ومَن خيرٌ من رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؟!([6]) وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ، وأبي هريرةَ -رضي اللهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّه قال: «ما يُصِيبُ المؤمنَ مِن نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ، ولا حُزْنٍ، ولا أذًى، ولا غَمٍّ, حتَّى الشَّوكةِ يُشَاكُها؛ إلَّا كفَّر اللهُ بها خطاياه»([7]).
وفي «الصَّحيحينِ» عن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه-، أنَّ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: «لا يموتُ لأحدٍ من المسلمينَ ثلاثةٌ من الوَلَدِ، فتَمَسَّه النَّارُ إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ»([8]) يُشِيرُ إلى قولِ اللهِ تعالى:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا _ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72].
وعن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- قال: أَتَتِ امرأةٌ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بصبيٍّ لها، فقالت: يا نبيَّ اللهِ، ادْعُ اللهَ له؛ فلقد دفَنتُ ثلاثةً. قال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «دفَنتِ ثلاثةً؟!» مُستعظِمًا أمرَها -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، قالت: نعم. قال: «لقد احتَظَرتِ بحِظَارٍ شديدٍ من النَّارِ»([9])؛ أي: لقد احتَمَيتِ بحِمًى عظيمٍ من النَّارِ، فما أعظَم الأجرَ، وما أكمَل الثَّوابَ، وما أجدَر أن يُستعذَبَ العذابُ في طلبِ هذا الثَّوابِ!
وجاء في حديثِ أبي موسى الأشعريِّ -رضي اللهُ عنه-، أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: «إذا مات وَلَدُ العبدِ؛ قال اللهُ -عزَّ وجلَّ- لملائكتِه: أَقَبَضتُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقولُ -وهو أعلمُ: أَقَبَضتُم ثمرةَ فؤادِه؟ فيقولون: نعم. فيقولُ: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَكَ واستَرجَعَ. فيقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: ابْنُوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ، وسَمُّوه بيتَ الحمدِ»([10]).
يا لها من بشارةٍ عندَ موتِ الولدِ معَ الإيمانِ؛ لأنَّ اللهَ إذا أمر ببناءِ بيتٍ لأحدٍ من عبيدِه، فلا بدَّ لذلك العبدِ مِن سُكْنَى هذا البيتِ في يومٍ من الأيَّامِ.
روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ معاويةَ بنِ قُرَّةَ عن أبيه: أنَّه كان رجلٌ يأتي النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ومعَه ابنٌ له, فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «أَتُحِبُّه؟» فقال: يا رسولَ اللهِ, أَحَبَّكَ اللهُ كما أُحِبُّه! فتَفَقَّدَه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فقال: «ما فعَل ابنُ فلانٍ؟» فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ماتَ. فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لأبيه: «أَمَا تُحِبُّ أن تأتيَ بابًا من أبوابِ الجنَّةِ إلَّا وجدتَه عليه ينتظرُكَ؟» فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ, أَلَهُ خاصَّةً أَمْ لِكُلِّنا؟ فقال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «بل لِكُلِّكم»([11]).
أخي المباركَ: فَهِم السَّلفُ الصَّالحُ -رضوانُ اللهِ عليهم- ذلك فهمًا عميقًا، فتَمَنَّوا أن يُقدِّموا أولادَهم وأَحِبَّتَهم، ثُمَّ يَرضَوْا بذلك ويَحتسِبوا؛ لينالوا الأجرَ العظيمَ من الرَّبِّ الكريمِ.
فها هو أبو مسلمٍ الخَوْلانيُّ -رحمه اللهُ تعالى- يقولُ: (لَأَنْ يُولَدَ لي مولودٌ يُحسِنُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- نباتَه, حتَّى إذا استوى على شبابِه، وكان أعجَبَ ما يكونُ إليَّ؛ قبَضَه مِنِّي = أَحَبُّ إليَّ مِن أن يكونَ لي الدُّنيا وما فيها)([12]).
وكان للإمامِ المُحدِّثِ إبراهيمَ بنِ إسحاقَ الحربيِّ -رحمه اللهُ تعالى- ابنٌ، له إحدى عشْرةَ سنةً، حَفِظَ القرآنَ، ولقَّنه من الفقهِ جانبًا كبيرًا, ثُمَّ مات الولدُ؛ قال مُحمَّدُ بنُ خَلَفٍ: جئتُ أُعَزِّيه، فقال: الحمدُ للهِ، واللهِ لقد كنتُ على حُبِّي له أَشتَهِي موتَه! قلتُ له: يا أبا إسحاقَ, أنت عالمُ الدُّنيا، تقولُ ذلك في صبيٍّ قد حَفِظَ القرآنَ ولقَّنتَه الحديثَ والفقهَ؟!! قال: نَعَمْ, أَوَيَخفَى عليكَ أجرُ تقديمِه؟
ثُمَّ قال: وفوقَ ذلك, فلقد رأيتُ في منامي وكأنَّ القيامةَ قامت، وكأنَّ صبيانًا في أيديهم قِلَالٌ([13]) فيها ماءٌ يَستقبِلونَ النَّاسَ فيَسقُونَهم، وكان اليومُ حارًّا شديدًا حرُّه، قال: فقلتُ لأحدِهم: اسْقِني من هذا الماءِ. قال: فنظَر إليَّ، وقال: لستَ أبي. قال: قلتُ: مَن أنتم؟ قال: نحنُ الصِّبْيةُ الَّذين مِتْنا واحتَسَبَنا آباؤُنا، ننتظرُهم لنستقبلَهم فنَسقِيَهم الماءَ. قال: فلهذا تَمَنَّيتُ موتَه([14]).
وفي «صحيحِ البخاريِّ» عن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه-، أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: «يقولُ اللهُ U: ما لِعبدي المؤمنِ عندي جزاءٌ إذا قبَضتُ صَفِيَّه من أهلِ الدُّنيا، ثُمَّ احتَسَبَه؛ إلَّا الجنَّةُ»([15]).
يا له من جزاءٍ!! فعندَك اللَّهُمَّ نحتسبُ أصفياءَنا وأصدقاءَنا وأحبابَنا وآباءَنا وأُمَّهاتِنا، وأنت حَسْبُنا ونعم الوكيلُ، وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ.
أخي المسلمَ: إنَّ مِمَّا يُسلِّي المُصابَ، ويُذهِبُ هَمَّه، ويُصبِّرُ نفسَه، ويُرضِي قلبَه، ويُعِينُه على مُصابِه، ويُخفِّفُ آلامَه: تَذَكُّرُ موتِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فما أُصِيبَتِ الأُمَّةُ بمصيبةٍ أعظمَ، ولا أَجَلَّ من مصيبةِ فَقْدِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، وانقطاعِ نزولِ الوحيِ؛ فإذا عَلِمتَ هذا هانَتْ عليكَ كُلُّ مصيبةٍ، وسكَنتْ نفسُكَ واطمَأَنَّتْ لكُلِّ بَلِيَّةٍ وخَطْبٍ.
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا أُصِيبَ أحدُكم بمصيبةٍ؛ فَلْيَذكُرْ مصيبتَه بي، فإنَّها من أعظمِ المصائبِ»([16]).
قال أبو العَتاهِيَةِ:
اصبِرْ لكُلِّ مصيبةٍ وتَجَلَّدِ ... واعلَمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مُخلَّدِ
أَوَما تَرَى أنَّ المصائبَ جَمَّةٌ ... وتَرَى المَنِيَّةَ للعبادِ بمَرْصَدِ؟
مَن لم يُصَبْ ممَّن تَرَى بمصيبةٍ؟ ... هذا سبيلٌ لستَ عنه بأَوْحَدِ
فإذا ذكَرتَ مُحمَّدًا ومُصابَه ... فاجعَلْ مُصابَكَ بالنَّبيِّ مُحمَّدِ
واعلَمْ يا أخي الكريمَ: أنَّ البلاءَ يُصِيبُ المؤمنَ على قَدْرِ إيمانِه، فإنْ كان في إيمانِه صلابةٌ زِيدَ في بلائِه، وإنْ كان في إيمانِه رِقَّةٌ خُفِّفَ في بلائِه، حتَّى ما يَتجلَّى عنه البلاءُ ويَذهَبُ إلَّا وقد حُطَّتْ خطاياه كلُّها، ويمشي على الأرضِ ليس عليه خطيئةٌ.
فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ -رضي اللهُ عنه- قال: سُئِل رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ، يُبتلَى النَّاسُ على قدرِ دينِهم؛ فمَن ثَخُنَ دِينُه اشتَدَّ بلاؤُه, ومَن ضَعُفَ دينُه ضَعُف بلاؤُه, وإنَّ الرَّجلَ ليُصِيبُه البلاءُ حتَّى يمشيَ في النَّاسِ وما عليه خطيئةٌ»([17]).
قال ابنُ القيِّمِ -رحمه اللهُ تعالى-: (واللهُ -سبحانه- إذا أراد بعبدٍ خيرًا؛ سقاه دواءً من الابتلاءِ والامتحانِ على قَدْرِ حالِه يستفرغُ به من الأدواءِ المُهْلِكةِ، حتَّى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه؛ أَهَّلَه لأشرفِ مراتبِ الدُّنيا، وهي عبوديَّتُه، وأرفعِ ثوابِ الآخرةِ، وهو رؤيتُه وقُرْبُه)([18]).
وفي «جامعِ التِّرمذيِّ» عن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه-، قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه, حتَّى يَلقَى اللهَ تعالى وما عليه خطيئةٌ»([19]).
أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أن يجعلنَا عندَ البَلاءِ من الصَّابرين وعندَ الرَّاحةِ والخيرِ من الشَّاكرين.
والحمدُ لله ربِّ العالمينَ.
([2]) مِن النَّاسِ مَن يُنكِرُ أن يكونَ الموتُ مصيبةً! بل هو مصيبةٌ، كما قال عزَّ وجلَّ:{ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
([7]) أخرجه البخاريُّ في كتابِ المرضى، باب: ما جاء في كفَّارةِ المرض 11/239/ الفتح، رقم (5641)، وأخرجه مسلمٌ في كتابِ البِرِّ والصِّلةِ والآدابِ، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرضٍ أو حُزنٍ أو نحو ذلك حتَّى الشَّوكةِ يُشَاكُها 4/1990 رقم (2572).
([8]) أخرجه البخاريُّ في كتابِ العلمِ، باب: هل يُجعَلُ للنِّساءِ يومًا على حِدَةٍ في العلمِ؟ 1/264/ الفتح، رقم (101)، وأخرجه مسلمٌ في كتابِ البِرِّ والصِّلةِ والآدابِ، باب: فضل مَن يموت له ولدٌ فيحتسبه 4/2028 رقم (2632)، واللَّفظُ لمسلمٍ.
([9]) أخرجه مسلمٌ في كتابِ البِرِّ والصِّلةِ والآدابِ، باب: فضل مَن يموت له ولدٌ فيحتسبه 4/2030 رقم (2636).
([10]) أخرجه أحمدُ في «المُسنَدِ» 4/415، والتِّرمذيُّ في كتابِ الجنائزِ، باب: فضل المصيبة إذا احتَسَب 3/332 رقم (1021)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. والبغويُّ في «شرحِ السُّنَّةِ» 5/456 رقم (1549)، وقال الحافظُ: الحديثُ حسنٌ. وقال الألبانيُّ في «السِّلسلةِ الصَّحيحةِ» 3/398 (1408): (فالحديثُ بمجموعِ طُرُقِه حسنٌ على أقلِّ الأحوالِ).
([11]) أخرجه أحمدُ 5/35 رقم (15042)، والنَّسائيُّ في كتابِ الجنائزِ، باب: الأمر بالاحتساب والصَّبر عند نزول المصيبة 4/321 رقم (1869)، وصحَّحه الألبانيُّ في «أحكامِ الجنائزِ» ص205، و«صحيحِ سننِ النَّسائيِّ» 3/403-404 رقم (1764).
([15]) أخرجه البخاريُّ في كتابِ الرِّقاقِ، باب: العمل الَّذي يُبتغَى به وجهُ الله تعالى 13/18/ الفتح، رقم (6424)، وأحمدُ في «المُسنَدِ» 2/417.
([16]) أخرجه الدَّارميُّ في المُقدِّمةِ، باب: في وفاة النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- من حديثِ مكحولٍ، ص55 رقم (85، 86)، وقد انفرَد به الدَّارميُّ، والحديثُ صحَّحه الألبانيُّ في «السِّلسلةِ الصَّحيحةِ» 3/97 رقم (1106)، وقال: (وبالجملةِ فالحديثُ بهذه الشَّواهدِ صحيحٌ).