۩ القائمة الرئيسية ۩
۩ فوائد علمية ۩
۩ القصص الدعوية ۩
۩ البحث ۩
۩ الاستشارات ۩
۩ إحصائية الزوار ۩
۩ التواجد الآن ۩
يتصفح الموقع حالياً 92
تفاصيل المتواجدون
الوقفةُ التَّصحيحيَّةُ (2) [النِّيَّةُ بينَ الاستصحابِ والنِّسيانِ]
المقال
الوقفةُ التَّصحيحيَّةُ (2) [النِّيَّةُ بينَ الاستصحابِ والنِّسيانِ]
د. ظافرُ بنُ حسنٍ آل جَبْعان
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
اللهمَّ اهدِني وسدِّدْني
الوقفةُ التَّصحيحيَّةُ (2)
[النِّيَّةُ بينَ الاستصحابِ والنِّسيانِ]
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- خلق جميعَ خلقِه، وأعطى كُلَّ شيءٍ خلقَه ثُمَّ هدى، ومِن كمالِ خلقِ اللهِ للإنسانِ أن جعل له عقلًا يَعِي به، وقُدرةً وإرادةً لا تخرجُ هذه القدرة والإرادةُ عن إرادةِ الحيِّ القيُّومِ.
وعندَ إدراكِ نعمةِ اللهِ على العبدِ؛ من إحسانِه له تصويرَه، وإتمامِه له في عقلِه، وتقويمِه له في ذاتِه، وخلقِه في أحسنِ تقويمٍ؛ فإنَّه يدركُ أنَّ هذه النِّعمَ لا بدَّ من شُكرِ اللهِ عليها، ومِن شُكرِ اللهِ عليها صرفُها فيما يُرضِي اللهَ -عزَّ وجلَّ- من الأقوالِ والأفعالِ والمقاصدِ.
إنَّ أمرَ المقاصدِ والإراداتِ، وبحثَ بابِها = لَهُوَ من الأهمِّيَّةِ بمكانٍ عليٍّ، وذلك أنَّه لا يُقبَلُ العملُ، ولا ينفعُ صاحبَه إلَّا إذا كان مقصدُه وإرادتُه صحيحةً، ولقد اهتمَّ أهلُ العلمِ ببابِ المقاصدِ وفقهِه اهتمامًا بالغًا حتى أصبَح الآنَ فِقهًا وبابًا مُستقِلًّا من أبوابِ العلمِ، وذلك لأهمِّيَّتِه، ولسنا هنا في بابِ تقريرِ هذه القضيَّةِ، إنَّما لبيانِ أهمِّيَّةِ الإراداتِ والمقاصدِ وعُلوِّ شأنِها، وارتباطِها الوثيقِ بالعملِ.
إنَّ الحديثَ عن النِّيَّةِ والمقصدِ في العملِ الدَّعويِّ لَهُو من الأهمِّيَّةِ بمكانٍ عليٍّ، وذلك أنَّ العاملَ عندَما يكونُ في خِضَمِّ العملِ، والجًا لمُعترَكِه، مُتقلِّبًا بينَ لذَّتِه ومَشقّتِه = قد ينسى نيِّتَه، ويغفُلُ بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ عن تجديدِها، ومُصاحَبتِها إلى نهايةِ العملِ، وإخلاصِها للهِ تعالى، واحتسابِ الأجرِ.
إنَّ كثيرًا من الدُّعاةِ والعاملين لدينِ اللهِ تعالى قد ينسى ويغفلُ عن مسألةِ النِّيَّةِ وتجديدِها للهِ تعالى، ولذلك تضعفُ بركةُ العملِ، ويقلُّ نفعُه، أو لا يَستمِرُّ.
إنَّ صلاحَ الأعمالِ لا يكونُ أبدًا إلَّا بصلاحِ النِّيَّةِ، يقولُ اللهُ تعالى: {فمَن كانَ يَرجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، يقولُ مُطرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ -رحمه اللهُ تعالى-: (صلاحُ القلبِ بصلاحِ العملِ، وصلاحُ العملِ بصلاحِ النِّيَّةِ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص73].
إنَّ إخلاصَ النِّيَّةِ للهِ تعالى في العملِ، واستصحابَها إلى نهايةِ العملِ = له مِن الأثرِ العظيمِ، والخيرِ العميمِ في قبولِ العملِ عندَ اللهِ، وتأثيرِه في نفوسِ العاملين والمُستفِيدينَ منه = شيءٌ عظيمٌ، وقد لا يُدرِكُ الإنسانُ ذلك، لكنَّ الَّذي يَتأمَّلُ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ يُدرِكُ ذلك.
قال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «مَا مِن عَبْدٍ كانتْ لهُ نِيَّةٌ في أَدَاءِ دَيْنِهِ؛ إِلَّا كانَ لهُ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- عَوْنٌ» [أخرجه أحمدُ 6/99 من حديثِ عائشةَ -رضي اللهُ عنها-، وهو حديثٌ حسنٌ، وأصلُه في الصَّحيحينِ]، فتَأمَّلْ معي أثرَ النِّيَّةِ الصَّالحةِ في هذا الغُرْمِ، وكيف أنَّ اللهَ تعالى يجعلُ للعبدِ عونًا، هذا في أمرِ الدُّنيا فكيف بأمرِ الآخرةِ؟!
وقد كانت أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي اللهُ عنها- تَستدِينُ، فقيل لها في ذلك، فذَكرتِ الحديثَ ثُمَّ قالت: (فأنا أَلتمِسُ ذلك العَونَ).
إنَّ أمرَ النِّيَّةِ أمرٌ عظيمٌ، لذلك كان السَّلفُ الصَّالحُ -رحمهم اللهُ تعالى- يحرصون على نيَّاتِهم حرصًا شديدًا، فيُراجِعونها، ويُحاسِبونها، ويُعالِجونها، ولذلك كَثُر نفعُهم، وقُبِل في النَّاسِ قولُهم، وها نحنُ اليومَ بعدَ مئاتِ السِّنينَ نقولُ قولَهم، ونُفِيدُ من علمِهم؛ وذلك لصدقِ نواياهم، نحسبُهم واللهُ حسيبُهم.
يقولُ سُفيانُ الثَّوريُّ -رحمه اللهُ تعالى-: (ما عَالَجتُ شيئًا أَشَدَّ عليَّ مِن نِيَّتِي؛ لأنَّها تَتقلَّبُ عليَّ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص73].
وقال يوسفُ بنُ أَسْباطٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (تخليصُ النِّيَّةِ من فسادِها أشدُّ على العاملينَ من طُولِ الاجتهادِ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص73].
وقال يحيى بنُ أبي كَثِيرٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (تَعلَّمُوا النِّيَّةَ؛ فإنَّها أبلغُ من العملِ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص73].
أخي العاملَ لدينِ اللهِ تعالى: تَذكَّرْ دائمًا الإخلاصَ، واستَصْحِبْه معَك، واستَحْضِرْ نيَّتَك في ذلك؛ فإنَّ ذلك ممَّا يُعِينُ على استمرارِ العملِ، وخُلوِّه من الشَّوائبِ، وقبولِه عندَ اللهِ تعالى.
أخي المُبارَكَ: ليستِ العِبرةُ بكثرةِ الأعمالِ، وتَنوُّعِها، وتَشعُّبِها، إنَّما العِبرةُ بما كان منها للهِ خالصًا! فكم من عملٍ قليلٍ فيه نيَّةٌ صالحةٌ، بارَك اللهُ فيه، وعَظُم نفعُه! وكم من أعمالٍ ضِخامٍ، النِّيَّةُ فيها مُختلِطةٌ، أو لغيرِ اللهِ، قلَّت بركتُها، وحَقُر نفعُها، يقولُ ابنُ المُبارَكِ -رحمه اللهُ تعالى-: (رُبَّ عملٍ صغيرٍ تُعظِّمُه النِّيَّةُ، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصغِّرُه النِّيَّةُ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص73].
ويقولُ الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (إنَّما يريدُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- مِنكَ نيَّتَكَ وإرادتَكَ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص74].
إنَّ مُحاسَبةَ النَّفسِ من وقتٍ لآخرَ على النِّيَّةِ وإخلاصِها للهِ، ممَّا يُعِينُ العاملَ على الإخلاصِ -بإذنِ اللهِ تعالى-، فإذا جلس الإنسانُ معَ نفسِه ثُمَّ سألها:
هل هذا العملُ والقولُ للهِ، أم أُرِيدُ منه عَرَضًا من أعراضِ الدُّنيا؟
هل هذه الخُطوةُ، وهذه الابتسامةُ، وهذه النَّظرةُ أُرِيدُ بها ما عندَ اللهِ وهي له، أم أُرِيدُ غيرَ ذلك؟
هل يَسُرُّني مدحُ النَّاسِ بعدَ العملِ وثناؤُهم عليه، أم لا يهمُّني ذلك بل أرجو أن يقبلَه اللهُ ولو لم يَرْضَ النَّاسُ؟
إلى غيرِ ذلك ممَّا يمكنُ أن يُحاسِبَ العاملُ نفسَه عليه، فإنَّ كثرةَ المُحاسَبةِ تجعلُ العبدَ لا يَتقدَّمُ خطوةً ولا يُؤخِّرُها إلَّا بنيَّةٍ، فقد كان بعضُهم يقولُ: (ما عملتُ عملًا إلَّا ولي فيه نيَّةٌ حسنةٌ)، فإذا وُفِّق العبدُ لذلك فقد جمع الخيرَ كُلَّه، يقولُ داودُ الطَّائيُّ -رحمه اللهُ تعالى-: (رأيتُ الخيرَ كُلَّه إنَّما يجمعُه حسنُ النِّيَّةِ، وكفاك بها خيرًا وإن تَنصَبْ) [أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» ص73].
وبعدُ؛ فإنِّي أُوصِي إخواني العاملين في مجالِ الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى: أن يُذكِّروا أنفسَهم دائمًا بإخلاصِ العملِ للهِ، واحتسابِ الأجرِ منه -سُبحانَه-، وذلك من وقتٍ لآخرَ؛ حتَّى لا يغيبَ ذلك الأمرُ المُهِمُّ عنهم، وليبقى العملُ للهِ خالصًا، فإنَّ ما كان للهِ دام واتَّصل، وما كان لغيرِه انقطع وانفصل.
وعليهم أيضًا بكثرةِ الدُّعاءِ بأن يجعلَ اللهُ العملَ له خالصًا، فإنَّ كثرةَ الدُّعاءِ والانطراحَ بينَ يدَيْ مَن بيدِه تصاريفُ الأمورِ، وسؤالَه الإخلاصَ والنِّيَّةَ الصَّالحةَ = ممَّا يُعِينُ على تحصيلِها.
وختامًا: ما أجملَ أن نَقِفَ معَ هذا الحديثِ وقفةَ تَدبُّرٍ وتَأمُّلٍ، وعِظةٍ وتَفكُّرٍ:
قال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَى، فمَن كانتْ هِجْرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه؛ فهِجْرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه، ومَن كانت هِجْرتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُها أو إلى امرأةٍ يَنكِحُها؛ فهِجْرتُهُ إلى ما هاجَرَ إليه» [أخرجه البخاريُّ ومُسلِمٌ].
أسألُ اللهَ أن يُوفِّقَنا لطاعتِه، وأن يُعِينَنا على مرضاتِه، وأن يُعلِّقَ قلوبَنا به، وألَّا يَكِلَنا إلى أنفسِنا طرفةَ عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، وأسألُه أن يرزقَنا الإخلاصَ في الأقوالِ والأعمالِ، وألَّا يجعلَ لأحدٍ من خلقِه في أعمالِنا وأقوالِنا نصيبًا؛ إنَّ ربِّي سميعٌ مُجِيبٌ. والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.